الاثنين، 12 أبريل 2010

ترجمة تهذيب مذكرات خير الدين بربروس.

يسعدني أن أقوم بنشر مذكرات خير الدين بربروس في موقع التاريخ الإسلامي وكلي أمل أن أكون قد ساهمت ولو بشطر يسير في تسليط الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ أمتنا الحديث .
وقبل أن أشرع في نقل هذه المذكرات أرى أنه من الضروري إعطاء فكرة موجزة عنها. فقد ذكر خير الدين بربروس ـ كما جاء في بداية هذه المذكرات ـ بأنه أملاها بنفسه على زميله المجاهد صاحب القلم السيال سيد علي المرادي، وذلك بطلب من السلطان العثماني العظيم سليمان القانوني الذي طلب من خير الدين ان يكتب له كتابا بيين فيه كيفية دخوله عالم الغزو في عرض البحر هو وأخوه أروج رئيس ( المعروف عند المؤرخين العرب باسم بابا عروج )، وذلك منذ اليوم الأول الذي ركب فيه البحر إلى أن صار سلطانا على الجزائر.
فقام خير الدين بإملائها بنفسه باللغة التركية ، ثم قام الكثير من الشعراء الأتراك بنظمها في قصيدة ملحمية طويلة. وتوجد النسخة الأصلية لهذه المذكرات في مكتبة متحف توب كابي سراي بإسطنبول، وفي مكتبة جامعة اسطنبول.
هذا؛ وقد ترجمت المذكرات إلى اللغة العربية في القرن السابع عشر من طرف مترجم مجهول للمفتي الحنفي بالجزائر والذي كان معروفا باسم : القلعجي .وعرف الكتاب منذئذ حتى اليوم باسم ( غزوات عروج وخير الدين ، مؤلف مجهول ). ثم قام باحث جزائري يدعى عبد الكريم عبد القادر بنشرها بهذا الإسم سنة 1934.ولم ينشر الكتاب بعد ذلك حتى اليوم .
ومن النسخة العربية ترجمت الى الفرنسية، ومنها ترجم الكتاب مرة أخرى إلى الإيطالية والإسبانية والإنجليزية. وهكذا يمكن للقارئ أن يتصور مدى بعد الترجمات عن النص الأصلي كلما تعدد الوسائط وبعدت عن النص الأصلي للكتاب.
ويرجع الفضل في تعرفي على هذه المذكرات عندما كنت أقوم بإعداد رسالة دكتوراه بجامعة مرمرة عندما طلب مني البروفيسور التركي خلوصي ياووز أستاذ المؤسسات العثمانية بجامعة مرمرة أن اقوم بإعداد دراسة عن مذكرات خير الدين بربروس. حيث سلمني نسخة باسم Barbaros Hatıraları أي مذكرات خير الدين بربروس ، والتي قام الباحث التركي أرتوغرول دوزداغ بنشرها عام 1975 فقرأت الكتاب كله وأعددت دراسة موجزة عنه. ثم التقيت بالأستاذ دوزداغ ذات إفطار رمضاني في بيت أحد الأصدقاء بإسطنبول فانتهزت الفرصة وسألته عن قصة الكتاب فأعلمني أنه قام بتحويل الكتاب إلى رواية تاريخية ولم يقم بتهذيب الكتاب او تلخيصه. ثم عثرت على نسخة آخرى لنفس الكتاب نشرها المؤرخ التركي يلماز أوز تونا في مجلة الحياة التاريخية في الفترة بين 1965ـ 1967، وذلك في شكل حلقات ثم قام بجمعها ونشرها في كتاب . وقد بين الناشر في مقدمة الكتاب انه قام بتهذيب المذكرات ونشرها باللغة التركية الحديثة ليتيسر على القراء المعاصرين الاستفادة منها بحكم أن اكثر القراء الأتراك اليوم يجهلون اللغة التركية العثمانية القديمة التي نشرت بها المذكرات. وبين في ذات المقدمة أنه لم يتدخل في النص الأصلي الا بقدر ما يقتضيه الانسياب اللغوي للنص، وحذف الاستطرادات التي يرى أنها لا تحدم الموضوع ولا الفكرة الأساسية للكتاب. فخطر لي حينها أن أقوم بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ليتسنى للقارئ والباحث العربي معرفة مرحلة تاريخية هامة من تاريخ أمتنا وصراعها في الحوض الغربي للبحر المتوسط.
هذا ولا يفوتني التنويه بأن قيادة البحرية التركية قامت بنشر المذكرات وتهذيبها إلان هذا التهذيب لم يكن أمينا حيث تدخل المهذب في النص وقام بتغيير بعض المفردات التي تعبر عن طبيعة الصراع في المرحلة التي كتب فيها الكتاب.
كما لا يفوتني أيضا التنويه بأن العلامة التركي كاتب جلبي الشهير عند الباحثين العرب باسم : حاجي خليفة قام باقتباس فصول طويلة من هذه المذكرات ونشرها في كتابه القيم : ( تحفة الكبار في أسفار البحار ) الذي خصصه للحديث عن المعارك الكبيرة التي خاضها العثمانيون في عرض البحار والمحيطات. كما أن جل الباحثين الأتراك يعتمدون في التأريخ لمنطقة المغرب العربي على هذين الكتابين . أي مذكرات خير الدين بربروس وكتاب تحفة الكبار.
فإلى المذكرات وكلي أمل أن اكون أمينا في الترجمة والله يتجاوز عن تقصيرنا وقصورنا ..
الحلقة الأولى
[
بدأت إملاء مذكراتي بأمر من السلطان سليمان القانوني
في أثناء اتصالي بالسلطان سليمان خان بن سليم خان، ورد عليّ فرمان سلطاني، هذا نصه:
" كيف خرجت أنت وأخوك أروج من جزيرة ميديللي، وفتحتم الجزائر ؟ ما لغزوات التي قمتم بها في البر والبحر حتى الآن ؟ . دوّن كل هذه الحوادث بدون زيادة أو نقصان في كتاب. وعندما تنتهي أرسل إليّ نسخة لأحتفظ بها في خزانتي " .
عندما استلمت هذا الأمر، استدعيت أحد أرباب القلم، زميلي في الكثير من غزوات البحر "المرادي"، وأخبرته بفرمان السلطان. فبدأنا على الفور في التدوين. أنا أملي، و " المرادي " يكتب:


[
B]
استقرار أبي يعقوب آغا في ميديللي وزواجه بأمي
[/b]


عندما فتح السلطان محمد الفاتح جزيرة ميديللي ، أمر الأتراك بالاستيطان في الجزيرة ، فكان أبي أحد المستوطنين الأوائل ، كما كان ابنا لأحد فرسان السباهية ؟ ، كما كان هو نفسه سباهيا أيضا . وكانت له في منطقة واردار المجاورة لسلانيك أرض إقطاع وهبت له بأمر من السلطان محمد الفاتح ، عندما استقر بالجزيـرة .
و هكذا ، فعندما انتظمت أمور والدي من جديد ، تزوج إحدى بنات أهالي الجزيرة . كان أبي أنيقا شجاعا. أنجبت له أمي أربعة أخوة هم : إسحاق الذي كان أكبر إخوتي ، ثم أخي أروج ، ثم أنا خضر ، ثم إلياس . مدّ الله في عمر الجميع ، ورزقهم النصر .
كان أخي إسحاق مقيما في قلعة ميديللي . أما أنا وأخي أروج فقد كنا مولعين بركوب البحر . اقتنى أخي أروج سفينة ، وانطلق بها للتجارة في البحر ، بينما اتخذت أنا مركبا ذا 18 مقعدا . كنا في البداية نتنقّل بين سلانيك وأغريبوز ، نجلب منهما البضاعة ، ونبيعها في ميديللي . إلا أن أخي أروج لم يقتنع بهذه الأسفار القريبة . إذ كان يرغب في الذهاب إلى طرابلس الشام . وذات يوم غادر ميديللي مع أخي الصغير إلياس ، متوجهين إلى طرابلس .

[CENTER]
وقوع أخي أروج أسيرا في أيدي كفار رودس
ومكوثه عندهم بضع سنين
[/center]

لم يتمكن أخي أروج من الوصول إلى طرابلس الشام ، فقد صادف في طريقه سفن فرسان جزيرة رودس، واشتبك معهم في معركة كبيرة ، سقط على إثرها أخي إلياس شهيدا، رحمه الله. بينما استولى الكفار على السفن، وأخذوا أروج أسيرا بسفينته إلى رودس مقيدا بالسلاسل. عندما وصل الخبر إلى ميديللي، حزنت وبكيت عليه كثيرا. لكنني شرعت في الحال أبحث عن سبيل لإنقاذ أخي .
كان لي صديق كافر يدعى غريغو يقوم بالتجارة مع جزيرة رودس . أخذته معي في سفينتي ، وقدمت به إلى بدروم ، وقلت له :
- " اليوم تتبـين الصداقة . خذ هذه ال: 18.000 أقجة  ، وأعنِّي على إنقاذ أخي . اذهب إلى رودس ، وانظر الأمور هناك. وسوف أنتظرك في بودروم " .
- غريغو : " على الرأس والعين " ، قال ذلك ، ثم مضى إلى رودس . وهناك قابل أخي أروج رئيــس وقال له :
- " أخوك خِضر يسلم عليك ، ويدعو لك كثيرا . وهو في غاية الحزن عليك بسبب وقوعك أسيرا في أيدي الكفار. ولا يكاد يكف عن البكاء عليك ليلا أو نهارا . وقد أرسلني إليك . وهو الآن في بودروم ينتظر أخبارا سارة عنك " .
عندما سمع أروج ذلك من غريغو بكى من شدة الفرح ، وقال له :
- " سلّم على أخي خضر . يجب أن لا يعلم أحد سبب قدومك إلى الجزيرة ، وسنلتقي في أول فرصة تتاح لنا " .
كان أروج رئيس يعرف في رودس رجلا مشهورا يدعى : سانتورلو أوغلو. كان يأتي أحيانا لرؤية أخي أروج ، ويتفقد أحواله . قال له أخي يوما :
- " إن فرسان رودس لن يبيعوني لأخي خضر، لكنهم ربما يبيعونني لك. فإن هرّبتني من الجزيرة، فإنني سوف اؤدي لك ديْنك في المستقبل "
سانترلوأغلو :
- " بكل سرور ، إذا باعوك فإنني سأشتريك، لكني إذا طلبت منهم ذلك مباشرة فإنهم سيشتبهون في الأمـر. والأفضل أنك عندما تنزل إلى المدينة ذات يوم تظاهر بمرورك على دكاني، ولكن إيّاك أن تنظر إلى الدكان مباشرة لئلا يعلموا بأني أعرفك . سأتظاهر بأني أراك صدفة عندما تكون مارا ، وأعبّر لهم عن إعجابي بك ، وأرجو الفرسان أن يبيعوك لي " .
عندما سمع أروج هذه الكلمات سُرّ كما لو صار طليقا . كم كانت حياة الأسر اليمة بالنسبة له .
في أحد الأيام ، كان سانتورلو أغلو جالسا أمام الدكان يتبادل أطراف الحديث مع فرسان جزيرة رودس ، وإذا به يرى أروج رئيس مارّا أمام الدكان ، كأنه يريد الذهاب إلى الخدمة . فقال لمن معه من البحارة :
- " لمن هذا الأسير الذي يغدو ويروح. أراه دائما يمرّ من هنا يخدم بحيوية ونشاط. لو يقبل صاحبه بيعه لاشتريته " . عندئذ قال أحد القباطنة :
- " أنا صاحبه، إذا تريد شراءه أبيعه لك ؟ " .
- " كم تريد ؟ " .
- " أرد ألفا من الذهب " .
- " هذا مبلغ كبير " .
- " حسنا، أتركه لك بثمانمائة " .
وقبل أن تتم عملية البيع ، أُلغيت الصفقة . فقد علم الفرسان بأن أروج تاجر معروف . وقالوا :
- " إن أخاه خضر رئيس في بودروم ، وهو مستعد لدفع 10.000 ذهبا . ويأسير يقدر بـ10.000 هل يمكن أن يباع بـ 800 ؟ " .
أعادوا لسانتورلو أوغلو ماله ، واستعادوا أروج . لقد علموا قيمته الحقيقية من غريغو ، الذي كان قد احتال عليَّ في ال: 18.000 التي دفعتها له ، وأعلم الفرسان باستعدادي لإنقاذ أروج .
وعلى إثر هذه الحادثة ، ألقى الرودسيون أروج في زنزانة تحت الأرض ، لكي لا أجد أيَّ حيلة تمكنني من إنقاذه . وجعلوا يعذبونه أكثر من ذي قبل . وضعوا الأغلال في يديه ورجليه وعنقه . إلا أنهم كانوا يعطونه من الطعام ما يسدّ به الرمق .
لم يتمكن اروج من تحمّل هذا العناء كثيرا . فطلب مقابلة ضابط الزنزانة التي حُبس فيها . فأذن له في ذلك . وعندما خرج سأله الضابط :
- " لماذا جئت ؟ " .
- " ما لذي تريدونه من وراء هذا الإيذاء الذي تلحقونه بي ؟ " .
- " اعلم أيها التركي : كيف تحاول إنقاذ نفسك بدفع 800 ذهبا . إن أخاك خير الدين رئيس ينتظر إنقاذك بمال الدنيا في بودروم . فهل تظن أنه لا علم لنا بذلك ؟ أم تظن أننا حمقى ؟ " .
- " كم تريدون أن أدفع لكم ، لإطلاق سراحي ؟ " .
- " وأنت ، كم تدفع ؟ كم تقدر نفسك ؟ " .
- " أنا أقدّر نفسي بجميع محصول الروملي من الشعير ، وجميع المصاريف اليومية التي تدفع في الأناضول ، بالإضافة إلى 100.000 ذهبا ، أدفعها لكم " !!!!.
- " أيها المجنون ؛ استمر في سخريتك . سوف ترى كيف تكون عاقبتك " .
بعد هذه المحاورة ، أمر الضابط الحانق رئيس السّجّانين بمعاملة أروج أسوأ مما كان يعامله من قبل . انزعج أروج كثيرا من هذا الوضع . وفي إحدى الليالي كان يبكي ، ويدعو في زنزانته وحيدا :
- " يا رب : أنت الذي تهب الفرَج للعاجزين ، فأغث عبدك الضعيف بجاه حبيبك  ، وعجّل إنقاذي من ظلم هؤلاء الكافرين " .
قضى أروج تلك الليلة يدعو في ذِلَّةٍ وانكسار ، حتى سقط في الحمأة ، وغلبه النوم من شدة التعب . فرأى في منامه شيخا مشرق الوجه يقول له :
- " يا أروج : لا تحزن بسبب ما أصابك من الأذى في سبيل الإسلام ؛ فإن خلاصك قريب ".
استيقظ أروج في غاية السرور لهذه الرؤيا ، وقد تلاشت همومه ، وانشرح صدره . وفي ذلك الصباح ، اجتمع كل قباطنة رودس . كانوا يتحدثون عن أمر أروج .فقال أحدهم :
- " إن أعمال البحر ليست ثابتة . اليوم أروج ، وغدا نحن . أرى أن الاستمرار في إيذاء هذا التركي ليس صوبا " .
وعلى هذا فقد قرروا إخراج أروج من الزنزانة ، وربطه في إحدى السفن حيث صار أسيرا جذافا بها . ومع هذا فقد كان يقول :
- " إن العمل في الجذف على سطح البحر نعمة بالنسبة لمن رأى الأذى تحت الأرض . يا رب لك الحمـد ، فقد رأيت وجه العالم " .
[/frame][/right]

في تلك الفترة كان الأمير قرقود واليا على أنطاليا . وكان قد تعود على أن يشتري في كل سنة مائة من الأسرى الأتراك من فرسان جزيرة رودس ، ويعتقهم في سبيل الله . فأرسل في تلك السنة حاجبه إلى رودس . فقام الرودسيون بفرز المائة أسير تركي ، وتسليمهم إليه . كانت الاتفاقية تقضي بأن يحمل الأسرى في سفينة رودسية إلى سواحل أنطاليا . فقدر الله تعالى أن تختار السفينة التي كان أروج مقيدا بها لنقل الأسـرى . ونظرا لقيمة أروج فإن الرودسيين لم يجعلوه ضمن المائة أسير الذين سيتم الإفراج عنهم .
كان أروج رئيس رجلا خفيف المزاج ، متقنا للكثير من اللغات ، لاسيما الرومية التي كان يتكلمها بشكل لا مثيل له . وكثيرا ما كان يتبادل أطراف الحديث مع القباطنة الرودسيين الذين يجيئون إلى سفينته وذات يوم قال القباطنة لأروج :
- " أيها التركي : أنت رجل حلو الحديث ، خصوصا بلساننا الذي تعرفه جيدا . ما لذي وجدته في الإسـلام ؟ تعال ادخل في ديننا وسوف يكون لك شأن كبير بيننا " !!.
فأجابهم أروج قائلا:
-" أيها المجانين: كل شخص يروقه دينه. هل يوجد نبي أفضل من النبي محمد أؤمــن به؟".
- " إذن لتبق على حالك، وننظر كيف يخلصك نبيك من أيدينا. والآن لتستمر في الجذف

يجب أن تحذروا من أروج

قال قسيس السفينة التي قيِّد فيها أروج للقباطنة محذرًا :
- " يجب أن تحذروا مما يقوله أروج ، فلا تتحدثوا معه كثيرا . إنه يبدوا متعلما ، ويعرف عن الإسلام أكثر مما أعرف عن المسيحية .. إياكم أن تغفلوا ، فهو ملحد قادر على إضلالكم جميعا ".
رست السفينة الرودسية في مكان موحش قريب من أنطاليا . حيث أُنزل حاجب الأمير قرقود، ومعه المائة أسير، فُتركوا هناك. وفي تلك الليلة كانت تهبُّ ريح معاكسة ، قرر الرودسيون بسببها انتظار الصبـاح. ثم قاموا بإنزال قارب السفينة والمضيِّ لصيد السمك . في هذه الأثناء هبَّت عاصفة شديدة لم يتمكن القارب بسببها من الدنوِّ من السفينة . فرسى في مكان بعيد من الساحل . انتهز أروج هذه الفرصة التي لم يكن فيها أحد يستطيع أن يرى فيها الآخر من شدّة الظلام الذي كان مُخيِّما على المكان . فحلَّ قيـوده ، وألقى بنفسه في البحر قائلا : " بسم الله الرحمن الرحيم " . وراح يسبح حتى وصل إلى الساحل بسلام .
سجد شكرا لله ، ثم سار حتى وصل إلى قرية تركية . وبينما هو يلتفت يمينا وشمالا باحثا عن شيء يستدل به على مكان وجوده إذا به يجد أمامه عجوزا تركية تقول له :
- " تبدوا كأنك قد جئت من طريق بعيد يا بنيَّ . تعال انزل عندي ضيفا في هذه الليلة " .
أخذت العجوز أروج رئيس إلى بيتها ، وأحضرت له الطعام ، فأطعمته ، وسقته ، وغيرت له ملابسه . وأمضى عشرة أيام في تلك القرية التي كان أهلها يختصمون على استضافته في كل ليلة .
وأما الرودسيون فإنهم عندما حلَّ الصباح ، وجدوا مكان أروج خاليا. فأدركوا أنه قد فرَّ . وعندما يئسوا من العثور على أروج راحوا يتساءلون في حيرة وقلق: " بأي وجه سنعود إلى رودس"؟.
رجعوا إلى رودس والحسرة تأكل قلوبهم .وأما قسيس السفينة فقد أعلمهم بأن : " معرفة أروج بالسحر هي التي مكنته من الفرار ".
ودَّع أروج العجوز ، وغادر القرية. كان يريد الذهاب إلى ميديللي. فوصل إلى أنطاليا خلال ثلاثة أيام . حيث كان هناك رجل مشهور يدعى علي رئيس ، يملك سفينة من نوع " قليون "¯. يشتغل بالتجارة بين الإسكندرية و أنطاليا. وقد بلغته شهرة أروج رئيس. رحب بأروج قائلا:
- " أهلا وسهلا بك يا بني، إن السفينة ليست لي، بل هي سفينتك". وبهذا صار أروج قبطانا ثانيا لسفينة علي رئيس.
في هذه الأثناء، يئست من الانتظار في بودروم، فرجعت إلى ميديللي. وعندما وصل أخي إلى الإسكندرية بعث من هناك رسالة إلى ميديللي شرح فيها مغامرته. سررت كثيرا بنجاة أخي، وخلاصه من الأسر .

أخي يدخل في خدمة سلطان مصر

سمع سلطان مصر بشهرة أخي ، فاستدعاه إليه . وعندما مثُل بين يديه ، عرض عليه الدخول في خدمتــه . ذلك لأن السلطان كان يريد أن يبعث بأسطول إلى نواحي الهند . وإذ وافق أروج على عرض السلطان فإن هذا الأخير قد عينه قائدا للأسطول .
كتب السلطان مرسوما ملكيا إلى والي أدنة أمره فيه بأن يرسل إلى ميناء باياس بخليج الإسكندر ون ما يكفي لصناعة 40 قطعة بحرية من الأخشاب . أعدّ والي أدنة الأخشاب المطلوبة ، وأرسلها إلى ميناء باياس . خرج أروج في 16 سفينة إلى باياس لأخذ الأخشاب ثم يتجه بعدها إلى مصر .
علم الرودسيون بأن أروج قد صار قائدا لأسطول سلطان مصر فراحوا يترقّبون الفرصة للقضاء عليه . وعندما بلغهم مجيؤه إلى باياس قاموا بالإغارة عليه بأسطول كبير . أدرك أروج رئيس خطورة موقفه فقام بإخراج جميع سفنه إلى البر ، و
انسحب ببحارته إلى الداخل . حيث صرفهم بلدانهم ، بينما جاء هو إلى أنطاليا . وهناك أمر بصناعة سفينة ذات 18 مقعدا ، أغار بها على سواحل رودس ، ولم يعط الكافرين فرصة التقاط أنفاسهم .
قال الأستاذ الأعظم ¯:
- " لقد ظهر قرصان يدعى أروج رئيس ، يملك سفينة ذات 18 مقعد . لا يكاد ينجو منه أحد . إنه يقوم بالاستيلاء على أموالنا ، وإحراق بلادنا . وكثيرا ما يأسر أطفالنا ويأخذهم إلى طرابلس الشام حيث يبيعهم في أسواقها ، حتى صرنا لا نقدر على ركوب البحر خوفا من شره . لقد كنت قلت لكم بأن لا تخرجوا هذا التركي من الزنزانة من تحت الأرض . لكن لم تسمعوا قولي ، فأخرجتموه ، وجعلتموه جذافا في السفينة . والآن اذهبوا وتخلصوا منه بسرعة .
انطلق الرودسيون خلف أروج في خمس أو ست قطع بحرية ، وراحوا يبحثون عنه في كل مكان . وأخيرا أغاروا على أحد الموانئ ، فأحرقوا سفينة أخي أروج ، إلا أنه تمكن من النجاة مع بحارته ، وعاد إلى أنطاليا .
أُخِذت سفينة أروج إلى ميناء رودس ، وشُهِّر به على رؤوس الخلائق . لكن عدم تمكن الفرسان من أسر أروج واقتياده إلى رودس أثار سخط الأستاذ الأعظم الذي صرخ فيهم قائلا :
- " السفينة لأروج ، لكنه ليس موجودا فيها " !!.
في الوقت الذي رجع فيه أروج إلى أنطاليا كان الأمير قرقود ابن السلطان بايزيد الثاني قد غادر ( تكة ) أنطاليا ، إلى ( سار وخان ) مانيسا التي عُيِّن واليا عليها . وكان للأمير قورقود خازن يقال له :" بيـالة بـاي " . وهذا الأخير كان أروج قد أهدى إليه غلاما إفرنجيا ؛ كما كانت تربطهما صداقة حميمة . وعندما وقع أروج في هذه الظروف الصعبة وبقي بدون سفينة ، قام بيالة باي بعرض وضعيته على سيده الأمير قورقود فقال له :
- " إن أروج رئيس ، عبد من عبيدكم المجاهدين ، وهو يقوم بمجاهدة الكفار ليلا ونهارا . فحقق انتصارات كبيرة عليهم . والآن - وقد فقد سفينته - فهو يحتاج إلى أن تتفضلوا عليه بسفينة يغزو عليها ".
كان الأمير قورقود قد بلغته شهرته أروج ، فقبل تحقيق رغبته بسرور . فدعا أروج للمثول بين يديه . وعندما جاءه احتفى به ، وأكرمه ، وقال له مُسَلِّيًا :
- " لا تأس ، فإني لن أتركك بدون سفينة ". ثم لم يلبث أن كتب أمرا إلى قاضي إزمير كتابا قال له فيه :
- " إذا جاءك كتابي هذا ، فعليك أن تأمر بصنع سفينة من نوع ( قاليتة ) دون تأخير ، وذلك حسب رغبـة ولدي أروج ، حتى يتمكن من مجاهدة الكفار عليها والانتقام منهم . ". كما قام بيالة باي بكتابة أمر إلى أمير الجمارك بإزمير جاء فيه :
- " إن أروج أخونا في الدنيا والآخرة . فلا تحرمه من عونك . عليك أن تأمر بصنع سفـــينة ذات 22 مقعدا ، وأن تقوم بالإشراف عليها بنفسك . كما يجب عليك أن تقوم بتسليمها إلى أروج في أقرب وقت ممكن . وأن تكتب جميع مصاريف تجهيز السفينة في حساب سيدي الأمير قورقود ".
جاء أروج إلى إزمير ، فسُلمت له السفينتان في الموعد المحدد : إحداهما تلك التي كان قد أهداها له الأمير قورقود ، وأما الثانية فكانت ملكا لبيالة باي ، وقد وضعت تحت تصرف أروج .
قام أروج بتجهيز السفينتين ، وجمع بحارته وانطلق بهم إلى ( فوجا ) . كانت سفينة أروج ذات 24 مقعدا ، وأما سفينة بيالة باي فقد كانت ذات 22 مقعدا . لقد تم صنع هاتين السفينتين خلال ثلاثة أشهر ونصف .
رست السفينتان في ميناء ( فوجا ) . فتوجه أروج رئيس من هناك إلى ( مانيسا ) ، حيث نزل في قصر بيالة باي ، فمكث هناك ثلاثة أيام ضيفا . وبعد ثلاثة أيام مثُل بين يدي الأمير قورقود ، فقبَّل يده . أثنى عليه الأمير ودعا له قائلا :
- " أسأل الله أن ينصرك في جميع غزواتك " .
ودّع أروج الأمير قورقود و بيالة باي في مانيسا ، ثم عاد إلى ( فوجا ) . فأمضى تلك الليلة مستغرقا في الدعاء والعبادة . وفي الصباح الباكر من اليوم التالي أقلع بسفنه . فلقي بعد عدة أيام سفينتين من سفن البندقية في عرض البحر ، فاستولى عليهما . كان في السفينتين 24.000 ذهبا . فأخذت هذه الأموال وغيرها غنيمـة . لقد استغنى البحارة بذلك كثيرا . كيف لا يستغنون ، وقد حازوا دعاء ابن عثمان الأمير قورقود. إن من فاز بدعاء السلطان تكون عاقبته خيرا ، ومن دعا عليه السلطان فإنه يظل يتخبط من كارثة إلى أخرى.
خاض أروج هذه المعركة في سواحل بوليا ، ومن هناك توجه إلى سواحل الروم ، فصادف في عرض مياه جزيرة ( أغريبوز ) ثلاث سفن بندقية أخرى . عندما رأى كفار البندقية سفن أروج رئيس ، شرعوا في إطلاق قذائفهم عليه . قام أروج بتشجيع بحارته بعبارات عذبة . فاقتربوا من السفن البندقية التي كانت قد حولت البحر إلى جحيم بقذائف مدافعها .
اقتربت السفن من بعضها البعض ، فقفز البحارة إلى سفن الكفار ، واستولوا عليها ، بعدما أخذوا 285 أسير ، وقتلوا 120 بندقيا .
نقلت الأموال التي كانت في السفن البندقية إلى سفن أروج رئيس . كانت السفن تبدو السلحفاة من ثقل الغنائم التي كانت تحملها . إذ لم تعد قادرة على الحركة . فأتوا إلى ميديللي في احتفال كبير .استقبلت أنا و أخي إسحاق أروج في الميناء رفقة جميع أقاربنا . قبَّلنا بعضنا وتعانقنا بحرارة وشوق كبيرين . ذلك لأنه كانت قد مضت سنوات طويلة على مغادرة أروج رئيس لميديللي .
قرر أخي مغادرة ميديللي إلى إزمير لمقابلة ولي نعمته الأمير قورقود و أخيه بيالة باي . لكن في هذه الأثناء وصل خبر جلوس السلطان سليم خان على عرش السلطنة ، ومعاداته لأخيه الأمير قورقود الذي فر من شدة الخوف . حزن أخي أروج كثيرا لهذا الخبر ، فقال له أخي الأكبر إسحاق :
- " يجب أن تذهب من هنا وتقضي هذا الشتاء في الإسكندرية ، ثم ننظر ما الذي يحدث ؟ إن السفينة التي لديك من إحسان الأمير قورقود ، فقد يصيبك من ذلك ضرر " .
وقبل أن يبقى لأخي أروج وقت لإطفاء حرارة الشوق ودّع كل منا الآخر وغادر ميديللي . فاستولى في سواحل جزيرة كربة Kerpe على سبع سفن للعدو ومضى إلى الإسكندرية . عندما وصل إلى هناك علم السلطان بوصوله مع يحيى رئيس بسبع قطع بحرية من الغنائم . كان أروج رئيس في غاية الحرج من سلطان مصر بسبب فقدانه السفن التي منحها له . وذلك عندما استولى عليها الرودسيون حينما أغاروا عليه في بـاياس Payas. ولكي يفوز بعفو السلطان فقد خص هذا الأخيرَ بقطع بحرية عظيمة من أموال الغنائم ، كما اختار أربع جواري ، وأربعة غلمـان ، وقدمها له . سُرّ السلطان بذلك كثيرا ، وأحسن ضيافته هو ورفاقـه . ثم قال له :
- " إن الله عفوٌّ يحب العفو . وقد عفوت عنك يا قبطان أروج . حقيقة لقد تركت 16 مركبا تحترق ، لكنك لم تدع أحدا من البحارة الذين كانوا فيها يُصابون بأذى ، فأنقذتهم جميعا . ولم تترك أحدا منهم يقع في الأسر. فأنا لم آسف لاحتراق سفني ، إذ الأيام دول ، وكل شيء يمكن أن يحدث . وإنما أسفت لعدم مجيئـك إليَّ . لقد عفوت عنك ، وأشكرك إذ أخذت بخاطري من جديد " . قال ذلك ، وبالغ في إكرام أخي ، وكافأه بأكثر من الهدايا التي أتحفه بها .
استأذن أخي ، وعاد من القاهرة إلى الإسكندرية . وكان السلطان قد كتب أمرا ملكيا إلى واليه بالإسكندرية يأمره فيه بإكرام أخي ورفاقه ، فقام الوالي بإكرامهم وحسن ضيافتهم . وقضى أخي هناك وقتا ممتعا .
حل الربيع ، فكتب أخي إلى السلطان يستأذنه في الخروج للغزو ، فأذن له بذلك . فركب البحر متوجها إلى سواحل قبرص حيث استولى على خمس مراكب بندقية Venedik . ومن هناك توجه نحو الغرب فوصل إلى جزيرة جربة بتونس حيث باع غنائمه لتجار الجزيرة . فكان نصيب كل بحار 25 ذراعا من جوخ البندقية ، و4 بنادق ، و4 مسدسات ، و 171.5 قطعة ذهبية .
وجد أروج سفينة ذاهبة إلى الإسكندرية ، فبعث فيها إلى سلطان مصر أغلى أنواع الجوخ ، والبنادق ، والمسـدسات ، بالإضافة إلى غلام في الثالثة أو الرابعة عشر من عمره . فقال السلطان لما وصلته هذه الهدايا :
- " إذا كان في هذه الدنيا من يرعى حق النعمة ، ويعرف الفضل لأهله ، فهو ولدي القبطان أروج " .
وهكذا دعا لأخي كثيرا ، وتوثقت أواصر المودة بينهما . واستمر أخي في اقتناص سفن الأعداء في سواحل جـربة ، إذ استولى على 5 أو 10 سفن أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق