الاثنين، 12 أبريل 2010

الشام في ظل الحكم العثماني

أولا: طبيعة الحكم العثماني للبلاد العربية

عملت الدولة العثمانية علي تثبيت أقدامها في المناطق التي أخضعتها من خلال نظام حكم مركزي واصح المعالم, وقد دامت هذه السيادة حتى بدايات القرن العشرين, وعلي الرغم من طول مدة السيادة العثمانية فإنها ظلت تمارس من خلال سلطة مركزية "خارج البلاد العربية" مما انعكس أثره علي بقاء أوضاع المجتمعات العربية كما هي دون تغيير جوهري وظل العثمانيون يشكلون طبقة حاكمة علي السطح كبديل لطبقة المماليك التي كانت تحكم قبلهم.


ويلاحظ أن الدولة العثمانية أرادات استرضاء بعض الشخصيات التي ساعدتها في عمليات فتوحاتها وتوسعها في المناطق العربية فعلي سبيل المثال عينت جان بردي الغزالي والياً علي الشام, وخاير بك والياً علي مصر.


وقد وضعت الدولة العثمانية علي رأس كل ولاية والٍ, وكان بعضهم برتبة وزير, وألحقت الدولة بالولايات عدد من كبار الموظفين منهم الدفتردار والكتخدا (وكيل الباشا), وقاضي القضاة, وكلهم يعينون من قبل السلطان, وقد حرصت الدولة العثمانية أن تسك العملة في سائر البلاد باسم السلطان العثماني, وإذا أردنا أن نستنتج السمات العامة للحكم العثماني فيمكن ملاحظة الخصائص والسمات الآتية:


أولا: أنه كان حكما سطحيا أي أنه كان قليل التأثير في المجتمعات العربية بل علي العكس فإن المجتمعات العربية العريقة في إسلامها وعروبتها ساهمت في صبغ الدولة العثمانية بصبغة شرقية إسلامية, فيكاد يجمع المؤرخون علي أن العثمانيون لم ينجحوا في "عثمنة أو تتريك" البلاد العربية بل أن العثمانيين هم الذين تأثروا بدرجة ما بثقافة وتراث وتقاليد البلاد العربية.


ثانيا: إن هذا الحكم فرض نوعا من "العزلة" علي العالم العربي وقد يبدو صحيحا أن العثمانيين استطاعوا حماية العالم العربي من تسلل النفوذ الغربي إليه حتى أواخر القرن الثامن عشر فقد أحاطوا الشرق العربي بسياج من العزلة حال بينه وبين الاتصال بالعالم الخارجي, وقد أثرت هذه العزلة علي الجانبين السياسي والاقتصادي بل علي سائر الجوانب الحضارية الأخرى فلم يقدر للبلاد العربية أن تتصل بالحضارة الأوربية.
ثالثا: كان أسلوب الحكم العثماني مركزيا فقد حكم العثمانيين العالم العربي عن طريق الفرمانات والقرارات التي صدرها السلاطين, ويتولي تنفيذها كبار رجالهم الذين يأتون رأسا من استانبول, وقد اقتصرت وظيفة الدولة العثمانية علي مسألة الدفاع عن الولايات وممتلكاتها وحفظ الأمن ثم تحصيل الضرائب وأخيرا تحقيق العدل بين الناس من خلال أجهزة قضائية.أما وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية فكان خارجا عن مسئولية الدولة العثمانية ويرجع المؤرخون ذلك إلي قصور العثمانيين في فهم طبيعة ومهمة الدولة ووظيفتها الاجتماعية وأن من واجبها السعي لسعادة ورفاهية المحكومين, الأمر الذي انعكس في أشكال من الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي للمجتمعات العربية.
رابعا: تميز حكم العثمانيين أنه حكم "عسكري" أي أن رجال الحكم والإدارة كانوا من قادة الجيش, وكما كانت الدولة العثمانية تقطع الأراضي لكبار رجال الجيش لزراعتها والاستقرار فيها عوضا عن دفاع مرتباتهم.
خامسا: اتسم الحكم العثماني للبلاد العربية "بالمحافظة" علي الأوضاع التي كانت قائمة قبل مجيئه, وظلت النظم والقوانين التي صدرت خلال عهدي سليم الأول وسليمان القانوني أساساً للحكم في عهود خلفائهم من السلاطين, فلم تهتم الدولة العثمانية بشكل عام لتحديث نظم الحكم والقوانين السادة مما حال دون تبني اتجاهات وأفكار جديدة في هذا الشأن. فقد تبني السلاطين العثمانيين فكرة أن أسلوب الإدارة البسيط والضرائب المستحقة تحقق مصلحة الحكام والمحكومين معا.
سادسا: كانت الدولة العثمانية في أساليب إدارتها "توازن" بين أرباب السلطات فلم يمنح السلطان أحدهم سلطة مطلقة, بل جعل كل منهم رقيبا علي الآخرين, فرغم أن الوالي كان نائبا عن السلطان في ممارسة الحكم إلا أن الدولة العثمانية كانت تحد من سلطته من الناحية العلمية وتحيطه بالمراقبين والعيون, ثم ما لبثت أن قصرت مدة ولايته علي عام واحد فقط.
سابعا: لقد كان فهم العثمانيين لطبيعة المجتمع ومهمة الدولة إزاءه فهماً قاصرا وضيقاً, ذلك أنهم كانوا ينظرون إلي المجتمع باعتباره يشكل طبقتين رئيستين: طبقة حاكمة من الأتراك العثمانيين, وطبقة كبيرة واسعة من المحكومين" الرعايا" التي ينبغي أن تعمل لخدمة الطبقة الحاكمة.وقد أجمع المؤرخون أن العثمانيين قد شكلوا في المجتمعات العربية طبقة ارستقراطية منغلقة علي نفسها منعزلة لم تندمج أو تنصهر اجتماعيا مع الشعوب العربية.

ثانيا: الحكام المحليون في بلاد الشام

بعد أن فتح السلطان سليم الأول مصر غادرها عائدا إلي بلاد الشام واتخذ بعض الإجراءات التي تتفق أهمية بلاد الشام للدولة العثمانية تلك الأهمية التي تنبع من كون بلاد الشام تمثل طريقا للحجيج, وكذلك تنبع أهميتها من موقعها الاستراتيجي بالنسبة للدولة فضلا عن مواردها الاقتصادية والتجارية عللي وجه الخصوص.

وفي أعقاب هذه التطورات أعاد العثمانيون تقسيم الشام إداريا, فأصبح ينقسم في البداية إلي ثلاث ولايات تنقسم كل منها إلي عدد من السنجقيات أو الألوية وهي :
1- ولاية دمشق : وكانت تضم عشر سنجقيات منها فلسطين وصيدا وبيروت ونابلس وغزة.
2- ولاية حلب : وكانت تضم خمس سنجقيات تقع في شمال سوريا .
3 – ولاية طرابلس: وتضم خمس سنجقيات منها حمص وحماة.

ويلاحظ المؤرخون أن بلاد الشام قد عانت كثيرا في هذا التقسيم الذي أدي إلي تفجر الصراعات بين الزعامات والتي استغلت ضعف الدولة العثمانية وتدهور أوضاع فرق الانكشارية عسكريا, وتدخل في مسائل الإدارة, واحتدام الصراع بين قادتها وبين الولاة في بلاد الشام. في خضم هذه الأوضاع بدأت تظهر قوة الزعماء العرب المحليين, الذين كانوا قادرين علي السيطرة علي الأمور وإقرار الأمن, فاضطرت الدولة العثمانية الاستعانة بهم في تولي مقاليد الأمور في بلاد الشام.

1- أسرة العظم في دمشق :



لقد تولي دمشق طوال القرن السادس عشر ست وأربعون واليا, لم يكمل أحدهم مدة ولايته, كذلك انتشرت فيها مع بداية القرن الثامن عشر, عمليات الفوضى والسلب مما أضعف سلطة الدولة العثمانية وما أقامته من نظم, ولم ينقذ البلاد من هذا سوى ظهور أسرة العظم التي تولي رجالها حكم ولاية دمشق ساعدوا خلالها علي تثبيت النفوذ العثماني في بلاد الشام.

وكان إسماعيل باشا العظم الأول من برز من رجال هذه الأسرة ليتولي ولاية دمشق من الدولة العثمانية لمقدرتها, فتمكن إسماعيل بما توفر له من قوة من كسب الباب العالي, وتقوية سلطته وكسب تأييد الأهالي عندما استطاع تأمين سلامة الحجيج وتوطيد الأمن, حتى ازداد نفوذ آل العظم بشكل كبير خلال هذه الفترة فبسطوا سلطتهم علي طرابلس وصيدا وامتد حكمهم إلي العريش , ومن الثابت أنهم كانوا يعتمدون في كسب رضا السلطان الباب العالي عنهم عن طريق وكيل الصدر الأعظم الذي كان سندا لهم.

غير أنهم ما لبثوا أن فقدوا هذا السند عندما أطيح بالصدر الأعظم, فضلا عن رغبة الدولة في الحصول علي بعض ثروات هذه الأسرة التي تضخمت, لذلك لجأت الدولة العثمانية إلي عزل بعض الولاة من آل العظم مما أدي إلي تدهور نفوذ الأسرة ومكانتها خلال هذه الفترة التي سبقت وفاة إسماعيل باشا.

غير أنهم ما لبثوا أن استعادوا قوتهم ومكانتهم عندما عاد مؤيدو الأسرة علي رأسهم وكيل الصدر الأعظم, فعهدت الدولة إلي سليمان باشا العظم بولاية دمشق التي تولاها مرتين خلال الفترة (1734-1743), ثم أعقبه أسعد باشا (1743-1757) .

ولم تستمر الأوضاع علي هذا النحو فلم يلبث آل العظم أن فقدوا مكانتهم لدي الباب العالي نتيجة الأوضاع التي أعقبت وفاة السلطان محمود الثاني, واستبعاد أصدقاء آل العظم من مراكز السلطة, فاستبعد آل العظم من حكم دمشق لبضع سنين, إلي أن عهد بحكمها إلي عثمان باشا الذي كان واحدا من مماليك أسعد باشا, فتولي حكمها (1761-1771) ثم فقدت الأسرة نفوذها مرة أخري لفترة قصيرة عندما تعرضت دمشق لغزو جيش مملوكي أرسله علي بك الكبير من مصر دعمه ظاهر العمر. لكن الدولة العثمانية ما لبثت أن استعادت سلطتها دمشق وعهدت بحكمها إلي محمد باشا العظم الذي تولي عشر سنوات, وبوفاته انتهي دور أسرة العظم بعد أن لعبت دورا هاما في حكم دمشق وبسطت سلطتها علي كثير من بلاد الشام لنحو ستين عاما.

2- المعنيون والشهابيون في لبنان:

عندما استولي السلطان سليم الأول علي دمشق سارع أبرز زعماء منطقة الشوف وجبل لبنات وهو الأمير فخر الدين المعني الأول, بإعلان خضوعه للدولة العثمانية, واعترافه بسيادة السلطان الذي رحب بذلك, وثبته مع أمراء الجبل حكاما مستقلين يمارسون سلطاتهم في ظل سيادة الدولة العثمانية.

واستمر الوضع كذلك حتى تفجر الصراع بين الأمراء المعنيون وبين خصومهم من آل سيفا في طرابلس ولم ينتهي الصراع إلا بظهور شخصية قوية هو الأمير فخر الدين المعني الثاني, الذي نجح في استعادة قوة أسرته وبسط نفوذها علي إقليم الشوف, وقد أثار ذلك حفيظة ولاة دمشق العثمانيين, بل والسلطان نفسه الذي بات قلقا من قوة المعنيين. ولما كان ذلك يمثل تحديا لسلطة ولاة دمشق فقد سعي لتأمين مركزه لدي عاصمة الدولة العثمانية من خلال إيجاد وكيل مقرب من السلطان.

غير أن ذلك لم يحل دون تنبه السلطان لتزايد قوة وخطر الأمير خاصة وأن هذا قد نجح في تكوين قوة عسكرية محلية قوية,كما أنه نجح في وضع أسس دولة حديثة من خلال صلاته مع الأوربيين تجاراً وخبراء ومهندسين ,وسياسته التي اتسمت بالتسامح الديني الذي أرساه بين الدروز والموارنة .

وقد تزايدت خطورة فخر الدين الثاني أكثر عندما تحالف مع أمير كردي اغتصب حلب فأصبح هذا التحالف من جانب قوتين محليتين مهددا للوجود العثماني في الشام كله. وبات علي الدولة العثمانية أن تدافع عن هيبتها فتقدمت قواتها واستعادت حلب, في الوقت الذي تغيرت فيه الأوضاع في استانبول لغير صالح المعنيين, فلم ير الأمير بداً من الهروب هو وأسرته من لبنان وع ذلك بقيت الإمارة في عائلته حيث اعترفت الدولة العثمانية بابنه علي أميراً.

وراحت الأمور تتحسن لصالح أسرته في عاصمة الدولة وبين حاشية السلطان, كما ترك والي دمشق منصبه الذي كان عدوا لدودا له, واستطاع الأمير فخر الدين الثاني أن يكسب عفو السلطان و أن يعود إلي بلاده, ثم لم يلبث أن عاود سياسته في تقوية نفوذ أسرته حتى تمكن من بسط سلطتها علي صفط وعجلون ونابلس من خلال الرشاوى التي قدمها لكبار رجال الدولة العثمانية.

وعندما استطاع السيطرة علي الطريق بين بيروت ودمشق انزعج والي دمشق وشرع في التحالف مع خصوم المعنيين للإطاحة بالأمير, الذي استطاع التصدي لذلك عام 1623م, ثم أصدر السلطان فرمانا يقر بسلطته علي لبنان ويمنحه لقب "سلطان البر".

وقد كان انشغال الدولة العثمانية بجولة صراع جديدة مع الصفويين لاسترداد بغداد, قد أقلقها من تزايد قوة المعنيين خاصة وأن أنباء وصلت إلي السلطان تفيد بأن ثمة اتصالات للين المعنيين والصفويين, فأصدرت الدولة العثمانية أوامرها إلي والي دمشق بإعداد حملة عسكرية قوية للقضاء علي الأمير فخر الدين المعني الثاني ولم يستطع الأمير مواجهتها, وسقط هو وأبناؤه في أسري واقتيدوا إلي استانبول, حيث حكم علي الأمير بالإعدام, وتمر لبنان فترة من الضعف خلال حكم بعض أفراد الأسرة المعنية حتى فقدوا السلطة بشكل نهائي في أواخر القرن السابع عشر.

الشهابيون:
في أعقاب التطورات السابقة طلبت الدولة العثمانية من أعيان لبنان ترشيح أمير لهم, فاختاروا أحد أمراء الأسرة الشهابية وهو الأمير بشير بن حسن الشهابي "بشير الأول" ثم أعقبه الأمير حيدر , وقد تمكن هذا من تقوية وتدعيم نفوذ أسرته بعد تثبيت سلطته في مواجهة خصومه المحليين,وفي عهده نزح عدد كبير من الدروز إلي جبل حوران, وعمل علي توطيد النظام الإقطاعي بمنح أنصاره الإقطاعيات ولم تتدخل الدولة في هذه الأوضاع مكتفية باعترافهم بسيادتها وخضوعهم لها

غي أن النزاعات لن تلبث أن تفجرت داخل الأسرة الشهابية ذاتها في الوقت الذي منيت فيه لبنان بانقسامات وصراعات طائفية ودينية حادة, خاصة بين الدروز والمسيحيين والمسلمين.

وفي عام 1732م تنازل حيدر عن الحكم لابنه ملحم الذي تولي الإمارة حتى عام 1754 ثم تنازل عنها ليتولاها أخوه منصور حتى عام 1770م لتعود لابن أخيه ملحم وهو الأخير يوسف حتى عام 1788م, ولم يكن لهم شخصية قوية مثل ما توفرت للأمير بشير الشهاب الثاني الذي تولي الإمارة 1788-1839م, وكان صاحب شخصية قوية استطاع جمع عناصر القوة والسلطة في يده, وقد تجاوزت سمعته جبل لبنان إلي سائر بلاد الشام, وقد أتاح للأمير أن يكون جيشا قويا وأن يطمح لإيجاد حكم مركزي في لبنان وأن يتبع سياسة استقلالية عن الدولة العثمانية فاستطاع معها بسط سيطرتها علي البقاء, والقضاء علي النظام الإقطاعي.

وقد تغاضت الدولة العثمانية عن طموحاته في البداية, نتيجة لتقديمه المعونة لها خلال صراعها مع الفرنسيين, غير أنه بتأييده فيما بعد لسياسة محمد علي والي مصر المناوئة للسلطان بدأت الدولة العثمانية في التضييق عليه والتصدي له. ونتيجة لصداقته مع محمد فقد إمارته وعزلته الدولة خلال الأحداث التي نتجت عنها معاهدة لندن عام 1840م.
اقرأ المزيد

معركة جالديران... الطريق على المشرق

كانت معركة "جالديران" من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقد استطاع السلطان العثماني التاسع "سليم الأول" بانتصاره على "الصفويين" في سهول "جالديران" أن يحقق لدولته الأمان من عدو طالما شكل خطرًا داهمًا على وحدتها واستقرارها.
كان السلطان "بايزيد الثاني" والد السلطان "سليم الأول" ميالا إلى البساطة في حياته، محبًا للتأمل والسلام؛ ولذلك فقد أطلق عليه بعض المؤرخين العثمانيين لقب "الصوفي"، وقد تمرد عليه أبناؤه الثلاثة في أواخر حكمه، واستطاع "سليم الأول" بمساعدة الإنكشارية أن يخلع أباه وينفرد بالحكم، ثم بدأ حملة واسعة للتخلص من المعارضين والعمل على استقرار الحكم، وإحكام قبضته على مقاليد الأمور في الدولة.
وقد اتسم السلطان "سليم" بكثير من الصفات التي أهَّلته للقيادة والزعامة؛ فهو –بالإضافة إلى ما يتمتع به من الحيوية الذهنية والجسدية- كان شديد الصرامة، يأخذ نفسه بالقسوة في كثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بأمور الدولة والحكم.
وبرغم ما كان عليه من القسوة والعنف فإنه كان محبًا للعلم، يميل إلى صحبة العلماء والأدباء، وله اهتمام خاص بالتاريخ والشعر الفارسي.
التحول الصفوي
اهتم السلطان "سليم الأول" منذ الوهلة الأولى بتأمين الحدود الشرقية للدولة ضد أخطار الغزو الخارجي الذي يتهددها من قِبل الصفويين -حكام فارس- الذين بدأ نفوذهم يزداد، ويتفاقم خطرهم، وتعدد تحرشهم بالدولة العثمانية.
وقد بدأت الحركة الصفوية كحركة صوفية منذ أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، ولكنها انتقلت من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية المناضلة منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، حتى استطاع الشاه "إسماعيل" -ابن آخر الزعماء الصفويين- أن يستولي على الحكم، ويكوِّن دولته بمساندة قبائل التركمان التي توافدت بالآلاف للانضمام إليه.
وحظي "إسماعيل الصفوي" بكثير من الاحترام والتقدير اللذين يصلان إلى حد التقديس، وكانت له كلمة نافذة على أتباعه، ومن ثَمَّ فقد قرر أن يمد نفوذه إلى الأراضي العثمانية المتاخمة لدولته في شرقي الأناضول.
وبدأ "إسماعيل" خطته بإرسال مئات من الدعاة الصفويين إلى الأناضول، فعملوا على نشر الدعوة الشيعية في أوساط الرعاة التركمان، وحققوا في ذلك نجاحًا كبيرًا.
تصاعد الخطر
وبالرغم من شعور السلطان "سليم" بتوغل المذهب الشيعي واستشعاره الخطر السياسي الذي تحتله تلك الدعوة باعتبارها تمثل تحديًا أساسيًا للمبادئ السُّنِّية التي تقوم عليها الخلافة العثمانية، فإن السلطان لم يبادر بالتصدي لهم إلا بعد أن اطمأنَّ إلى تأمين الجبهة الداخلية لدولته، وقضى تمامًا على كل مصادر القلاقل والفتن التي تهددها.
وبدأ "سليم" يستعد لمواجهة الخطر الخارجي الذي يمثله النفوذ الشيعي؛ فاهتم بزيادة عدد قواته من الانكشارية حتى بلغ عددهم نحو خمسة وثلاثين ألفًا، وزاد في رواتبهم، وعُني بتدريبهم وتسليحهم بالأسلحة النارية المتطورة.
وأراد السلطان "سليم الأول" أن يختبر قواته من الانكشارية، فخاض بها عدة معارك ناجحة ضد "الصفويين" في "الأناضول" و"جورجيا".
سليم يقرع طبول الحرب
وبعد أن اطمأنَّ السلطان "سليم" إلى استعداد قواته للمعركة الفاصلة بدأ يسعى لإيجاد ذريعة للحرب ضد الصفويين، ووجد السلطان بغيته في التغلغل الشيعي الذي انتشر في أطراف الدولة العثمانية، فأمر بحصر أعداد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بصورة سرية، ثم أمر بقتلهم جميعًا في مذبحة رهيبة بلغ عدد ضحاياها نحو أربعين ألفًا.
وفي أعقاب تلك المذبحة أعلن السلطان "سليم" الحرب على الصفويين، وتحرك على رأس جيش تبلغ قوته مائة وأربعين ألف مقاتل من مدينة "أدرنه" في [ 22 من المحرم 920هـ= 19 من مارس 1514م] فسار بجيشه حتى وصل "قونية" في [7 من ربيع الآخر 920= 1 من يونيو 1514م] فاستراح لمدة ثلاثة أيام، ثم واصل سيره حتى وصل "آرزنجان" في [أول جمادى الآخرة 920 هـ= 24 من يوليو 1514م]، ثم واصل المسير نحو "أرضوم"، فبلغها في [13 من جمادى الآخرة 920 هـ= 5 من أغسطس 1514].
وسار الجيش العثماني قاصدًا "تبريز" عاصمة الفرس، فلم تقابله في تقدمه واجتياحه بلاد فارس مقاومة تذكر؛ فقد كانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه، وكانوا يحرقون المحاصيل، ويدمرون الدور التي كانوا يخلفونها من ورائهم بعد انسحابهم، حتى لا يجد جيش العثمانيين من المؤن ما يساعده على التوغل في بلاد فارس وتحقيق المزيد من الانتصارات، وكان الفرس يتقهقرون بشكل منظم حتى يمكنهم الانقضاض على الجيوش العثمانية بعد أن يصيبهم التعب والإنهاك.
واستمر تقدم السلطان "سليم" بقواته داخل الأراضي الفارسية، وكان الشاه "إسماعيل الصفوي" يتجنب لقاء قوات العثمانيين لتفوقها وقوتها، وقد رأى الانسحاب إلى أراضي شمال إيران الجبلية؛ حيث تمكنه طبيعتها الوعرة من الفرار من ملاحقة جيوش العثمانيين.
المواجهة الحاسمة في جالديران
وفي خِضم تلك الأحداث العصيبة فوجئ السلطان "سليم" ببوادر التمرد من جانب بعض الجنود والقادة الذين طالبوا بإنهاء القتال والعودة إلى "القسطنطينية"، فأمر السلطان بقتلهم، وكان لذلك تأثير كبير في إنهاء موجة التردد والسخط التي بدأت بوادرها بين الجنود، فتبددت مع الإطاحة برؤوس أولئك المتمردين.
وتقدم الجيش العثماني بصعوبة شديدة إلى "جالديران" في شرقي "تبريز"، وكان الجيش الصفوي قد وصلها منذ مدة حتى بلغها في [أول ليلة من رجب 920هـ=22 من أغسطس 1514م]، وقرر المجلس العسكري العثماني (ديوان حرب) الذي اجتمع في تلك الليلة القيام بالهجوم فجر يوم [2 من رجب 920هـ= 23 من أغسطس 1514].
كان الفريقان متعادليْن تقريبا في عدد الأفراد، إلا أن الجيش العثماني كان تسليحه أكثر تطورًا، وتجهيزاته أكمل، واستعداده للحرب أشد.
وبدأ الهجوم، وحمل الجنود الانكشارية على الصفويين حملة شديدة، وبالرغم من أن معظم الجنود العثمانيين كانوا عرضة للإرهاق والتعب بعد المسافة الطويلة التي قطعوها وعدم النوم بسبب التوتر والتجهيز لمباغتة العدو فجرًا فإنهم حققوا انتصارًا حاسمًا على الصفويين، وقتلوا منهم الآلاف، كما أَسَروا عددًا كبيرًا من قادتهم.
العثمانيون في تبريز
وتمكن الشاه "إسماعيل الصفوي" من النجاة بصعوبة شديدة بعد إصابته بجرح، ووقع في الأَسْر عدد كبير من قواده، كما أُسرت إحدى زوجاته، ولم يقبل السلطان "سليم" أن يردها إليه، وزوّجها لأحد كتّابه انتقامًا من الشاه.
ودخل العثمانيون "تبريز" في [14 من رجب 920 هـ= 4 من سبتمبر 1514م] فاستولوا على خزائن الشاه، وأمر السلطان "سليم" بإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية، وفي خِضم انشغاله بأمور الحرب والقتال لم يغفل الجوانب الحضارية والعلمية والتقنية؛ حيث أمر بجمع العمال المهرة والحاذفين من أرباب الحرف والصناعات، وإرسالهم إلى "القسطنطينية"؛ لينقلوا إليها ما بلغوه من الخبرة والمهارة.
وكان السلطان "سليم" يشعر بما نال جنوده من التعب والإعياء بعد المجهود الشاق والخارق الذي بذلوه، فمكث في المدينة ثمانية أيام حتى استردّ جنوده أنفاسهم، ونالوا قسطًا من الراحة استعدادًا لمطاردة فلول الصفويين.
وترك السلطان المدينة، وتحرك بجيوشه مقتفيًا أثر الشاه "إسماعيل" حتى وصل إلى شاطئ نهر "أراس"، ولكن برودة الجو وقلة المؤن جعلتاه يقرر العودة إلى مدينة "أماسيا" بآسيا الصغرى للاستراحة طوال الشتاء، والاستعداد للحرب مع قدوم الربيع بعد أن حقق الهدف الذي خرج من أجله، وقضى على الخطر الذي كان يهدد دولته في المشرق، إلا أنه كان على قناعة بأن عليه أن يواصل الحرب ضد الصفويين، وقد تهيأ له ذلك بعد أن استطاع القضاء على دولة المماليك في الشام أقوى حلفاء الصفويين.
اقرأ المزيد

ترجمة تهذيب مذكرات خير الدين بربروس.

يسعدني أن أقوم بنشر مذكرات خير الدين بربروس في موقع التاريخ الإسلامي وكلي أمل أن أكون قد ساهمت ولو بشطر يسير في تسليط الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ أمتنا الحديث .
وقبل أن أشرع في نقل هذه المذكرات أرى أنه من الضروري إعطاء فكرة موجزة عنها. فقد ذكر خير الدين بربروس ـ كما جاء في بداية هذه المذكرات ـ بأنه أملاها بنفسه على زميله المجاهد صاحب القلم السيال سيد علي المرادي، وذلك بطلب من السلطان العثماني العظيم سليمان القانوني الذي طلب من خير الدين ان يكتب له كتابا بيين فيه كيفية دخوله عالم الغزو في عرض البحر هو وأخوه أروج رئيس ( المعروف عند المؤرخين العرب باسم بابا عروج )، وذلك منذ اليوم الأول الذي ركب فيه البحر إلى أن صار سلطانا على الجزائر.
فقام خير الدين بإملائها بنفسه باللغة التركية ، ثم قام الكثير من الشعراء الأتراك بنظمها في قصيدة ملحمية طويلة. وتوجد النسخة الأصلية لهذه المذكرات في مكتبة متحف توب كابي سراي بإسطنبول، وفي مكتبة جامعة اسطنبول.
هذا؛ وقد ترجمت المذكرات إلى اللغة العربية في القرن السابع عشر من طرف مترجم مجهول للمفتي الحنفي بالجزائر والذي كان معروفا باسم : القلعجي .وعرف الكتاب منذئذ حتى اليوم باسم ( غزوات عروج وخير الدين ، مؤلف مجهول ). ثم قام باحث جزائري يدعى عبد الكريم عبد القادر بنشرها بهذا الإسم سنة 1934.ولم ينشر الكتاب بعد ذلك حتى اليوم .
ومن النسخة العربية ترجمت الى الفرنسية، ومنها ترجم الكتاب مرة أخرى إلى الإيطالية والإسبانية والإنجليزية. وهكذا يمكن للقارئ أن يتصور مدى بعد الترجمات عن النص الأصلي كلما تعدد الوسائط وبعدت عن النص الأصلي للكتاب.
ويرجع الفضل في تعرفي على هذه المذكرات عندما كنت أقوم بإعداد رسالة دكتوراه بجامعة مرمرة عندما طلب مني البروفيسور التركي خلوصي ياووز أستاذ المؤسسات العثمانية بجامعة مرمرة أن اقوم بإعداد دراسة عن مذكرات خير الدين بربروس. حيث سلمني نسخة باسم Barbaros Hatıraları أي مذكرات خير الدين بربروس ، والتي قام الباحث التركي أرتوغرول دوزداغ بنشرها عام 1975 فقرأت الكتاب كله وأعددت دراسة موجزة عنه. ثم التقيت بالأستاذ دوزداغ ذات إفطار رمضاني في بيت أحد الأصدقاء بإسطنبول فانتهزت الفرصة وسألته عن قصة الكتاب فأعلمني أنه قام بتحويل الكتاب إلى رواية تاريخية ولم يقم بتهذيب الكتاب او تلخيصه. ثم عثرت على نسخة آخرى لنفس الكتاب نشرها المؤرخ التركي يلماز أوز تونا في مجلة الحياة التاريخية في الفترة بين 1965ـ 1967، وذلك في شكل حلقات ثم قام بجمعها ونشرها في كتاب . وقد بين الناشر في مقدمة الكتاب انه قام بتهذيب المذكرات ونشرها باللغة التركية الحديثة ليتيسر على القراء المعاصرين الاستفادة منها بحكم أن اكثر القراء الأتراك اليوم يجهلون اللغة التركية العثمانية القديمة التي نشرت بها المذكرات. وبين في ذات المقدمة أنه لم يتدخل في النص الأصلي الا بقدر ما يقتضيه الانسياب اللغوي للنص، وحذف الاستطرادات التي يرى أنها لا تحدم الموضوع ولا الفكرة الأساسية للكتاب. فخطر لي حينها أن أقوم بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ليتسنى للقارئ والباحث العربي معرفة مرحلة تاريخية هامة من تاريخ أمتنا وصراعها في الحوض الغربي للبحر المتوسط.
هذا ولا يفوتني التنويه بأن قيادة البحرية التركية قامت بنشر المذكرات وتهذيبها إلان هذا التهذيب لم يكن أمينا حيث تدخل المهذب في النص وقام بتغيير بعض المفردات التي تعبر عن طبيعة الصراع في المرحلة التي كتب فيها الكتاب.
كما لا يفوتني أيضا التنويه بأن العلامة التركي كاتب جلبي الشهير عند الباحثين العرب باسم : حاجي خليفة قام باقتباس فصول طويلة من هذه المذكرات ونشرها في كتابه القيم : ( تحفة الكبار في أسفار البحار ) الذي خصصه للحديث عن المعارك الكبيرة التي خاضها العثمانيون في عرض البحار والمحيطات. كما أن جل الباحثين الأتراك يعتمدون في التأريخ لمنطقة المغرب العربي على هذين الكتابين . أي مذكرات خير الدين بربروس وكتاب تحفة الكبار.
فإلى المذكرات وكلي أمل أن اكون أمينا في الترجمة والله يتجاوز عن تقصيرنا وقصورنا ..
الحلقة الأولى
[
بدأت إملاء مذكراتي بأمر من السلطان سليمان القانوني
في أثناء اتصالي بالسلطان سليمان خان بن سليم خان، ورد عليّ فرمان سلطاني، هذا نصه:
" كيف خرجت أنت وأخوك أروج من جزيرة ميديللي، وفتحتم الجزائر ؟ ما لغزوات التي قمتم بها في البر والبحر حتى الآن ؟ . دوّن كل هذه الحوادث بدون زيادة أو نقصان في كتاب. وعندما تنتهي أرسل إليّ نسخة لأحتفظ بها في خزانتي " .
عندما استلمت هذا الأمر، استدعيت أحد أرباب القلم، زميلي في الكثير من غزوات البحر "المرادي"، وأخبرته بفرمان السلطان. فبدأنا على الفور في التدوين. أنا أملي، و " المرادي " يكتب:


[
B]
استقرار أبي يعقوب آغا في ميديللي وزواجه بأمي
[/b]


عندما فتح السلطان محمد الفاتح جزيرة ميديللي ، أمر الأتراك بالاستيطان في الجزيرة ، فكان أبي أحد المستوطنين الأوائل ، كما كان ابنا لأحد فرسان السباهية ؟ ، كما كان هو نفسه سباهيا أيضا . وكانت له في منطقة واردار المجاورة لسلانيك أرض إقطاع وهبت له بأمر من السلطان محمد الفاتح ، عندما استقر بالجزيـرة .
و هكذا ، فعندما انتظمت أمور والدي من جديد ، تزوج إحدى بنات أهالي الجزيرة . كان أبي أنيقا شجاعا. أنجبت له أمي أربعة أخوة هم : إسحاق الذي كان أكبر إخوتي ، ثم أخي أروج ، ثم أنا خضر ، ثم إلياس . مدّ الله في عمر الجميع ، ورزقهم النصر .
كان أخي إسحاق مقيما في قلعة ميديللي . أما أنا وأخي أروج فقد كنا مولعين بركوب البحر . اقتنى أخي أروج سفينة ، وانطلق بها للتجارة في البحر ، بينما اتخذت أنا مركبا ذا 18 مقعدا . كنا في البداية نتنقّل بين سلانيك وأغريبوز ، نجلب منهما البضاعة ، ونبيعها في ميديللي . إلا أن أخي أروج لم يقتنع بهذه الأسفار القريبة . إذ كان يرغب في الذهاب إلى طرابلس الشام . وذات يوم غادر ميديللي مع أخي الصغير إلياس ، متوجهين إلى طرابلس .

[CENTER]
وقوع أخي أروج أسيرا في أيدي كفار رودس
ومكوثه عندهم بضع سنين
[/center]

لم يتمكن أخي أروج من الوصول إلى طرابلس الشام ، فقد صادف في طريقه سفن فرسان جزيرة رودس، واشتبك معهم في معركة كبيرة ، سقط على إثرها أخي إلياس شهيدا، رحمه الله. بينما استولى الكفار على السفن، وأخذوا أروج أسيرا بسفينته إلى رودس مقيدا بالسلاسل. عندما وصل الخبر إلى ميديللي، حزنت وبكيت عليه كثيرا. لكنني شرعت في الحال أبحث عن سبيل لإنقاذ أخي .
كان لي صديق كافر يدعى غريغو يقوم بالتجارة مع جزيرة رودس . أخذته معي في سفينتي ، وقدمت به إلى بدروم ، وقلت له :
- " اليوم تتبـين الصداقة . خذ هذه ال: 18.000 أقجة  ، وأعنِّي على إنقاذ أخي . اذهب إلى رودس ، وانظر الأمور هناك. وسوف أنتظرك في بودروم " .
- غريغو : " على الرأس والعين " ، قال ذلك ، ثم مضى إلى رودس . وهناك قابل أخي أروج رئيــس وقال له :
- " أخوك خِضر يسلم عليك ، ويدعو لك كثيرا . وهو في غاية الحزن عليك بسبب وقوعك أسيرا في أيدي الكفار. ولا يكاد يكف عن البكاء عليك ليلا أو نهارا . وقد أرسلني إليك . وهو الآن في بودروم ينتظر أخبارا سارة عنك " .
عندما سمع أروج ذلك من غريغو بكى من شدة الفرح ، وقال له :
- " سلّم على أخي خضر . يجب أن لا يعلم أحد سبب قدومك إلى الجزيرة ، وسنلتقي في أول فرصة تتاح لنا " .
كان أروج رئيس يعرف في رودس رجلا مشهورا يدعى : سانتورلو أوغلو. كان يأتي أحيانا لرؤية أخي أروج ، ويتفقد أحواله . قال له أخي يوما :
- " إن فرسان رودس لن يبيعوني لأخي خضر، لكنهم ربما يبيعونني لك. فإن هرّبتني من الجزيرة، فإنني سوف اؤدي لك ديْنك في المستقبل "
سانترلوأغلو :
- " بكل سرور ، إذا باعوك فإنني سأشتريك، لكني إذا طلبت منهم ذلك مباشرة فإنهم سيشتبهون في الأمـر. والأفضل أنك عندما تنزل إلى المدينة ذات يوم تظاهر بمرورك على دكاني، ولكن إيّاك أن تنظر إلى الدكان مباشرة لئلا يعلموا بأني أعرفك . سأتظاهر بأني أراك صدفة عندما تكون مارا ، وأعبّر لهم عن إعجابي بك ، وأرجو الفرسان أن يبيعوك لي " .
عندما سمع أروج هذه الكلمات سُرّ كما لو صار طليقا . كم كانت حياة الأسر اليمة بالنسبة له .
في أحد الأيام ، كان سانتورلو أغلو جالسا أمام الدكان يتبادل أطراف الحديث مع فرسان جزيرة رودس ، وإذا به يرى أروج رئيس مارّا أمام الدكان ، كأنه يريد الذهاب إلى الخدمة . فقال لمن معه من البحارة :
- " لمن هذا الأسير الذي يغدو ويروح. أراه دائما يمرّ من هنا يخدم بحيوية ونشاط. لو يقبل صاحبه بيعه لاشتريته " . عندئذ قال أحد القباطنة :
- " أنا صاحبه، إذا تريد شراءه أبيعه لك ؟ " .
- " كم تريد ؟ " .
- " أرد ألفا من الذهب " .
- " هذا مبلغ كبير " .
- " حسنا، أتركه لك بثمانمائة " .
وقبل أن تتم عملية البيع ، أُلغيت الصفقة . فقد علم الفرسان بأن أروج تاجر معروف . وقالوا :
- " إن أخاه خضر رئيس في بودروم ، وهو مستعد لدفع 10.000 ذهبا . ويأسير يقدر بـ10.000 هل يمكن أن يباع بـ 800 ؟ " .
أعادوا لسانتورلو أوغلو ماله ، واستعادوا أروج . لقد علموا قيمته الحقيقية من غريغو ، الذي كان قد احتال عليَّ في ال: 18.000 التي دفعتها له ، وأعلم الفرسان باستعدادي لإنقاذ أروج .
وعلى إثر هذه الحادثة ، ألقى الرودسيون أروج في زنزانة تحت الأرض ، لكي لا أجد أيَّ حيلة تمكنني من إنقاذه . وجعلوا يعذبونه أكثر من ذي قبل . وضعوا الأغلال في يديه ورجليه وعنقه . إلا أنهم كانوا يعطونه من الطعام ما يسدّ به الرمق .
لم يتمكن اروج من تحمّل هذا العناء كثيرا . فطلب مقابلة ضابط الزنزانة التي حُبس فيها . فأذن له في ذلك . وعندما خرج سأله الضابط :
- " لماذا جئت ؟ " .
- " ما لذي تريدونه من وراء هذا الإيذاء الذي تلحقونه بي ؟ " .
- " اعلم أيها التركي : كيف تحاول إنقاذ نفسك بدفع 800 ذهبا . إن أخاك خير الدين رئيس ينتظر إنقاذك بمال الدنيا في بودروم . فهل تظن أنه لا علم لنا بذلك ؟ أم تظن أننا حمقى ؟ " .
- " كم تريدون أن أدفع لكم ، لإطلاق سراحي ؟ " .
- " وأنت ، كم تدفع ؟ كم تقدر نفسك ؟ " .
- " أنا أقدّر نفسي بجميع محصول الروملي من الشعير ، وجميع المصاريف اليومية التي تدفع في الأناضول ، بالإضافة إلى 100.000 ذهبا ، أدفعها لكم " !!!!.
- " أيها المجنون ؛ استمر في سخريتك . سوف ترى كيف تكون عاقبتك " .
بعد هذه المحاورة ، أمر الضابط الحانق رئيس السّجّانين بمعاملة أروج أسوأ مما كان يعامله من قبل . انزعج أروج كثيرا من هذا الوضع . وفي إحدى الليالي كان يبكي ، ويدعو في زنزانته وحيدا :
- " يا رب : أنت الذي تهب الفرَج للعاجزين ، فأغث عبدك الضعيف بجاه حبيبك  ، وعجّل إنقاذي من ظلم هؤلاء الكافرين " .
قضى أروج تلك الليلة يدعو في ذِلَّةٍ وانكسار ، حتى سقط في الحمأة ، وغلبه النوم من شدة التعب . فرأى في منامه شيخا مشرق الوجه يقول له :
- " يا أروج : لا تحزن بسبب ما أصابك من الأذى في سبيل الإسلام ؛ فإن خلاصك قريب ".
استيقظ أروج في غاية السرور لهذه الرؤيا ، وقد تلاشت همومه ، وانشرح صدره . وفي ذلك الصباح ، اجتمع كل قباطنة رودس . كانوا يتحدثون عن أمر أروج .فقال أحدهم :
- " إن أعمال البحر ليست ثابتة . اليوم أروج ، وغدا نحن . أرى أن الاستمرار في إيذاء هذا التركي ليس صوبا " .
وعلى هذا فقد قرروا إخراج أروج من الزنزانة ، وربطه في إحدى السفن حيث صار أسيرا جذافا بها . ومع هذا فقد كان يقول :
- " إن العمل في الجذف على سطح البحر نعمة بالنسبة لمن رأى الأذى تحت الأرض . يا رب لك الحمـد ، فقد رأيت وجه العالم " .
[/frame][/right]

في تلك الفترة كان الأمير قرقود واليا على أنطاليا . وكان قد تعود على أن يشتري في كل سنة مائة من الأسرى الأتراك من فرسان جزيرة رودس ، ويعتقهم في سبيل الله . فأرسل في تلك السنة حاجبه إلى رودس . فقام الرودسيون بفرز المائة أسير تركي ، وتسليمهم إليه . كانت الاتفاقية تقضي بأن يحمل الأسرى في سفينة رودسية إلى سواحل أنطاليا . فقدر الله تعالى أن تختار السفينة التي كان أروج مقيدا بها لنقل الأسـرى . ونظرا لقيمة أروج فإن الرودسيين لم يجعلوه ضمن المائة أسير الذين سيتم الإفراج عنهم .
كان أروج رئيس رجلا خفيف المزاج ، متقنا للكثير من اللغات ، لاسيما الرومية التي كان يتكلمها بشكل لا مثيل له . وكثيرا ما كان يتبادل أطراف الحديث مع القباطنة الرودسيين الذين يجيئون إلى سفينته وذات يوم قال القباطنة لأروج :
- " أيها التركي : أنت رجل حلو الحديث ، خصوصا بلساننا الذي تعرفه جيدا . ما لذي وجدته في الإسـلام ؟ تعال ادخل في ديننا وسوف يكون لك شأن كبير بيننا " !!.
فأجابهم أروج قائلا:
-" أيها المجانين: كل شخص يروقه دينه. هل يوجد نبي أفضل من النبي محمد أؤمــن به؟".
- " إذن لتبق على حالك، وننظر كيف يخلصك نبيك من أيدينا. والآن لتستمر في الجذف

يجب أن تحذروا من أروج

قال قسيس السفينة التي قيِّد فيها أروج للقباطنة محذرًا :
- " يجب أن تحذروا مما يقوله أروج ، فلا تتحدثوا معه كثيرا . إنه يبدوا متعلما ، ويعرف عن الإسلام أكثر مما أعرف عن المسيحية .. إياكم أن تغفلوا ، فهو ملحد قادر على إضلالكم جميعا ".
رست السفينة الرودسية في مكان موحش قريب من أنطاليا . حيث أُنزل حاجب الأمير قرقود، ومعه المائة أسير، فُتركوا هناك. وفي تلك الليلة كانت تهبُّ ريح معاكسة ، قرر الرودسيون بسببها انتظار الصبـاح. ثم قاموا بإنزال قارب السفينة والمضيِّ لصيد السمك . في هذه الأثناء هبَّت عاصفة شديدة لم يتمكن القارب بسببها من الدنوِّ من السفينة . فرسى في مكان بعيد من الساحل . انتهز أروج هذه الفرصة التي لم يكن فيها أحد يستطيع أن يرى فيها الآخر من شدّة الظلام الذي كان مُخيِّما على المكان . فحلَّ قيـوده ، وألقى بنفسه في البحر قائلا : " بسم الله الرحمن الرحيم " . وراح يسبح حتى وصل إلى الساحل بسلام .
سجد شكرا لله ، ثم سار حتى وصل إلى قرية تركية . وبينما هو يلتفت يمينا وشمالا باحثا عن شيء يستدل به على مكان وجوده إذا به يجد أمامه عجوزا تركية تقول له :
- " تبدوا كأنك قد جئت من طريق بعيد يا بنيَّ . تعال انزل عندي ضيفا في هذه الليلة " .
أخذت العجوز أروج رئيس إلى بيتها ، وأحضرت له الطعام ، فأطعمته ، وسقته ، وغيرت له ملابسه . وأمضى عشرة أيام في تلك القرية التي كان أهلها يختصمون على استضافته في كل ليلة .
وأما الرودسيون فإنهم عندما حلَّ الصباح ، وجدوا مكان أروج خاليا. فأدركوا أنه قد فرَّ . وعندما يئسوا من العثور على أروج راحوا يتساءلون في حيرة وقلق: " بأي وجه سنعود إلى رودس"؟.
رجعوا إلى رودس والحسرة تأكل قلوبهم .وأما قسيس السفينة فقد أعلمهم بأن : " معرفة أروج بالسحر هي التي مكنته من الفرار ".
ودَّع أروج العجوز ، وغادر القرية. كان يريد الذهاب إلى ميديللي. فوصل إلى أنطاليا خلال ثلاثة أيام . حيث كان هناك رجل مشهور يدعى علي رئيس ، يملك سفينة من نوع " قليون "¯. يشتغل بالتجارة بين الإسكندرية و أنطاليا. وقد بلغته شهرة أروج رئيس. رحب بأروج قائلا:
- " أهلا وسهلا بك يا بني، إن السفينة ليست لي، بل هي سفينتك". وبهذا صار أروج قبطانا ثانيا لسفينة علي رئيس.
في هذه الأثناء، يئست من الانتظار في بودروم، فرجعت إلى ميديللي. وعندما وصل أخي إلى الإسكندرية بعث من هناك رسالة إلى ميديللي شرح فيها مغامرته. سررت كثيرا بنجاة أخي، وخلاصه من الأسر .

أخي يدخل في خدمة سلطان مصر

سمع سلطان مصر بشهرة أخي ، فاستدعاه إليه . وعندما مثُل بين يديه ، عرض عليه الدخول في خدمتــه . ذلك لأن السلطان كان يريد أن يبعث بأسطول إلى نواحي الهند . وإذ وافق أروج على عرض السلطان فإن هذا الأخير قد عينه قائدا للأسطول .
كتب السلطان مرسوما ملكيا إلى والي أدنة أمره فيه بأن يرسل إلى ميناء باياس بخليج الإسكندر ون ما يكفي لصناعة 40 قطعة بحرية من الأخشاب . أعدّ والي أدنة الأخشاب المطلوبة ، وأرسلها إلى ميناء باياس . خرج أروج في 16 سفينة إلى باياس لأخذ الأخشاب ثم يتجه بعدها إلى مصر .
علم الرودسيون بأن أروج قد صار قائدا لأسطول سلطان مصر فراحوا يترقّبون الفرصة للقضاء عليه . وعندما بلغهم مجيؤه إلى باياس قاموا بالإغارة عليه بأسطول كبير . أدرك أروج رئيس خطورة موقفه فقام بإخراج جميع سفنه إلى البر ، و
انسحب ببحارته إلى الداخل . حيث صرفهم بلدانهم ، بينما جاء هو إلى أنطاليا . وهناك أمر بصناعة سفينة ذات 18 مقعدا ، أغار بها على سواحل رودس ، ولم يعط الكافرين فرصة التقاط أنفاسهم .
قال الأستاذ الأعظم ¯:
- " لقد ظهر قرصان يدعى أروج رئيس ، يملك سفينة ذات 18 مقعد . لا يكاد ينجو منه أحد . إنه يقوم بالاستيلاء على أموالنا ، وإحراق بلادنا . وكثيرا ما يأسر أطفالنا ويأخذهم إلى طرابلس الشام حيث يبيعهم في أسواقها ، حتى صرنا لا نقدر على ركوب البحر خوفا من شره . لقد كنت قلت لكم بأن لا تخرجوا هذا التركي من الزنزانة من تحت الأرض . لكن لم تسمعوا قولي ، فأخرجتموه ، وجعلتموه جذافا في السفينة . والآن اذهبوا وتخلصوا منه بسرعة .
انطلق الرودسيون خلف أروج في خمس أو ست قطع بحرية ، وراحوا يبحثون عنه في كل مكان . وأخيرا أغاروا على أحد الموانئ ، فأحرقوا سفينة أخي أروج ، إلا أنه تمكن من النجاة مع بحارته ، وعاد إلى أنطاليا .
أُخِذت سفينة أروج إلى ميناء رودس ، وشُهِّر به على رؤوس الخلائق . لكن عدم تمكن الفرسان من أسر أروج واقتياده إلى رودس أثار سخط الأستاذ الأعظم الذي صرخ فيهم قائلا :
- " السفينة لأروج ، لكنه ليس موجودا فيها " !!.
في الوقت الذي رجع فيه أروج إلى أنطاليا كان الأمير قرقود ابن السلطان بايزيد الثاني قد غادر ( تكة ) أنطاليا ، إلى ( سار وخان ) مانيسا التي عُيِّن واليا عليها . وكان للأمير قورقود خازن يقال له :" بيـالة بـاي " . وهذا الأخير كان أروج قد أهدى إليه غلاما إفرنجيا ؛ كما كانت تربطهما صداقة حميمة . وعندما وقع أروج في هذه الظروف الصعبة وبقي بدون سفينة ، قام بيالة باي بعرض وضعيته على سيده الأمير قورقود فقال له :
- " إن أروج رئيس ، عبد من عبيدكم المجاهدين ، وهو يقوم بمجاهدة الكفار ليلا ونهارا . فحقق انتصارات كبيرة عليهم . والآن - وقد فقد سفينته - فهو يحتاج إلى أن تتفضلوا عليه بسفينة يغزو عليها ".
كان الأمير قورقود قد بلغته شهرته أروج ، فقبل تحقيق رغبته بسرور . فدعا أروج للمثول بين يديه . وعندما جاءه احتفى به ، وأكرمه ، وقال له مُسَلِّيًا :
- " لا تأس ، فإني لن أتركك بدون سفينة ". ثم لم يلبث أن كتب أمرا إلى قاضي إزمير كتابا قال له فيه :
- " إذا جاءك كتابي هذا ، فعليك أن تأمر بصنع سفينة من نوع ( قاليتة ) دون تأخير ، وذلك حسب رغبـة ولدي أروج ، حتى يتمكن من مجاهدة الكفار عليها والانتقام منهم . ". كما قام بيالة باي بكتابة أمر إلى أمير الجمارك بإزمير جاء فيه :
- " إن أروج أخونا في الدنيا والآخرة . فلا تحرمه من عونك . عليك أن تأمر بصنع سفـــينة ذات 22 مقعدا ، وأن تقوم بالإشراف عليها بنفسك . كما يجب عليك أن تقوم بتسليمها إلى أروج في أقرب وقت ممكن . وأن تكتب جميع مصاريف تجهيز السفينة في حساب سيدي الأمير قورقود ".
جاء أروج إلى إزمير ، فسُلمت له السفينتان في الموعد المحدد : إحداهما تلك التي كان قد أهداها له الأمير قورقود ، وأما الثانية فكانت ملكا لبيالة باي ، وقد وضعت تحت تصرف أروج .
قام أروج بتجهيز السفينتين ، وجمع بحارته وانطلق بهم إلى ( فوجا ) . كانت سفينة أروج ذات 24 مقعدا ، وأما سفينة بيالة باي فقد كانت ذات 22 مقعدا . لقد تم صنع هاتين السفينتين خلال ثلاثة أشهر ونصف .
رست السفينتان في ميناء ( فوجا ) . فتوجه أروج رئيس من هناك إلى ( مانيسا ) ، حيث نزل في قصر بيالة باي ، فمكث هناك ثلاثة أيام ضيفا . وبعد ثلاثة أيام مثُل بين يدي الأمير قورقود ، فقبَّل يده . أثنى عليه الأمير ودعا له قائلا :
- " أسأل الله أن ينصرك في جميع غزواتك " .
ودّع أروج الأمير قورقود و بيالة باي في مانيسا ، ثم عاد إلى ( فوجا ) . فأمضى تلك الليلة مستغرقا في الدعاء والعبادة . وفي الصباح الباكر من اليوم التالي أقلع بسفنه . فلقي بعد عدة أيام سفينتين من سفن البندقية في عرض البحر ، فاستولى عليهما . كان في السفينتين 24.000 ذهبا . فأخذت هذه الأموال وغيرها غنيمـة . لقد استغنى البحارة بذلك كثيرا . كيف لا يستغنون ، وقد حازوا دعاء ابن عثمان الأمير قورقود. إن من فاز بدعاء السلطان تكون عاقبته خيرا ، ومن دعا عليه السلطان فإنه يظل يتخبط من كارثة إلى أخرى.
خاض أروج هذه المعركة في سواحل بوليا ، ومن هناك توجه إلى سواحل الروم ، فصادف في عرض مياه جزيرة ( أغريبوز ) ثلاث سفن بندقية أخرى . عندما رأى كفار البندقية سفن أروج رئيس ، شرعوا في إطلاق قذائفهم عليه . قام أروج بتشجيع بحارته بعبارات عذبة . فاقتربوا من السفن البندقية التي كانت قد حولت البحر إلى جحيم بقذائف مدافعها .
اقتربت السفن من بعضها البعض ، فقفز البحارة إلى سفن الكفار ، واستولوا عليها ، بعدما أخذوا 285 أسير ، وقتلوا 120 بندقيا .
نقلت الأموال التي كانت في السفن البندقية إلى سفن أروج رئيس . كانت السفن تبدو السلحفاة من ثقل الغنائم التي كانت تحملها . إذ لم تعد قادرة على الحركة . فأتوا إلى ميديللي في احتفال كبير .استقبلت أنا و أخي إسحاق أروج في الميناء رفقة جميع أقاربنا . قبَّلنا بعضنا وتعانقنا بحرارة وشوق كبيرين . ذلك لأنه كانت قد مضت سنوات طويلة على مغادرة أروج رئيس لميديللي .
قرر أخي مغادرة ميديللي إلى إزمير لمقابلة ولي نعمته الأمير قورقود و أخيه بيالة باي . لكن في هذه الأثناء وصل خبر جلوس السلطان سليم خان على عرش السلطنة ، ومعاداته لأخيه الأمير قورقود الذي فر من شدة الخوف . حزن أخي أروج كثيرا لهذا الخبر ، فقال له أخي الأكبر إسحاق :
- " يجب أن تذهب من هنا وتقضي هذا الشتاء في الإسكندرية ، ثم ننظر ما الذي يحدث ؟ إن السفينة التي لديك من إحسان الأمير قورقود ، فقد يصيبك من ذلك ضرر " .
وقبل أن يبقى لأخي أروج وقت لإطفاء حرارة الشوق ودّع كل منا الآخر وغادر ميديللي . فاستولى في سواحل جزيرة كربة Kerpe على سبع سفن للعدو ومضى إلى الإسكندرية . عندما وصل إلى هناك علم السلطان بوصوله مع يحيى رئيس بسبع قطع بحرية من الغنائم . كان أروج رئيس في غاية الحرج من سلطان مصر بسبب فقدانه السفن التي منحها له . وذلك عندما استولى عليها الرودسيون حينما أغاروا عليه في بـاياس Payas. ولكي يفوز بعفو السلطان فقد خص هذا الأخيرَ بقطع بحرية عظيمة من أموال الغنائم ، كما اختار أربع جواري ، وأربعة غلمـان ، وقدمها له . سُرّ السلطان بذلك كثيرا ، وأحسن ضيافته هو ورفاقـه . ثم قال له :
- " إن الله عفوٌّ يحب العفو . وقد عفوت عنك يا قبطان أروج . حقيقة لقد تركت 16 مركبا تحترق ، لكنك لم تدع أحدا من البحارة الذين كانوا فيها يُصابون بأذى ، فأنقذتهم جميعا . ولم تترك أحدا منهم يقع في الأسر. فأنا لم آسف لاحتراق سفني ، إذ الأيام دول ، وكل شيء يمكن أن يحدث . وإنما أسفت لعدم مجيئـك إليَّ . لقد عفوت عنك ، وأشكرك إذ أخذت بخاطري من جديد " . قال ذلك ، وبالغ في إكرام أخي ، وكافأه بأكثر من الهدايا التي أتحفه بها .
استأذن أخي ، وعاد من القاهرة إلى الإسكندرية . وكان السلطان قد كتب أمرا ملكيا إلى واليه بالإسكندرية يأمره فيه بإكرام أخي ورفاقه ، فقام الوالي بإكرامهم وحسن ضيافتهم . وقضى أخي هناك وقتا ممتعا .
حل الربيع ، فكتب أخي إلى السلطان يستأذنه في الخروج للغزو ، فأذن له بذلك . فركب البحر متوجها إلى سواحل قبرص حيث استولى على خمس مراكب بندقية Venedik . ومن هناك توجه نحو الغرب فوصل إلى جزيرة جربة بتونس حيث باع غنائمه لتجار الجزيرة . فكان نصيب كل بحار 25 ذراعا من جوخ البندقية ، و4 بنادق ، و4 مسدسات ، و 171.5 قطعة ذهبية .
وجد أروج سفينة ذاهبة إلى الإسكندرية ، فبعث فيها إلى سلطان مصر أغلى أنواع الجوخ ، والبنادق ، والمسـدسات ، بالإضافة إلى غلام في الثالثة أو الرابعة عشر من عمره . فقال السلطان لما وصلته هذه الهدايا :
- " إذا كان في هذه الدنيا من يرعى حق النعمة ، ويعرف الفضل لأهله ، فهو ولدي القبطان أروج " .
وهكذا دعا لأخي كثيرا ، وتوثقت أواصر المودة بينهما . واستمر أخي في اقتناص سفن الأعداء في سواحل جـربة ، إذ استولى على 5 أو 10 سفن أخرى.
اقرأ المزيد

الوثائق العثمانية و تاريخ الجزيرة العربية

تشكل الوثائق العثمانية مصدرا اصيلا من مصادر كتابة التاريخ الحديث في المنطقة العربية عامة وشبه الجزيرة العربية والعراق على نحو خاص ذلك ان العثمانيين قد بسطوا نفوذهم على هذه المناطق زمنا طويلا, على نحو كان له الاثر الكبير في تكوين المقدرات السياسية والاجتماعية للمنطقة. لذا فان الوثائق عماد التاريخ فهو لايستوي قائما على حين يتعهده المؤرخ بالرعاية الا بها. وحين تنعدم الوثائق او يتعذر وجودها فعلى المؤرخ ان يصمت لانه يفقد الدليل الذي يعني على البيان, فالمؤرخ بلا وثيقة في رحاب التاريخ كالقاضي ينظر قضية في محكمة تغيب عنها شهود الدفاع والادعاء.
وعلى الرغم من اهمية الوثيقة التي هي شاهد عيان على طرف من الاحداث التاريخية, الا انها لا تصنع التاريخ فشهود بعض الاطراف لا يمكن اصدار حكم صريح, فالوثيقة هي الكلمة وهي رغم كونها الوحدة الاساسية في كتاب المؤرخ الذي لاتقوم صناعته الا بها، الا انها مع ذلك ليست مفيدة في حد ذاتها حين توضع عشوائيا جوار اخرى. فالكلمات مالم تنظم لا تؤلف جملة مفيدة كما ان الجمل المفيدة في ذاتها لا تصنع كتابا مالم تنسق وفق خطة محكمة بمعرفة ودراية وصولا الى المعنى المنشود.
فالوثيقة الكلمة التي هي مادة المؤرخ تعني القول بان للتاريخ ركنين : مادة تقدمها الوثيقة , وذهن مؤرخ يتناول هذه المادة ويعالجها بوسائله وفق خطة يشيد عليها البناء.
والوثائق رغم ندرتها مقارنة بالاحداث التي تحكي عنها او الاخرى التي وقعت في زمانها دون ان يذكر شيء عنها , اشكال واصناف . فمن الوثائق ما هو مسجل مكتوب ومنها ما هو محفور او منقوش او مصور .
ومن الوثائق ايضا تلك المعالم الاثرية وتلك المباني التي واراها تراب الزمن ومنها كذلك الاحفورة وكل اثر خلفته الطبيعة في البيئة ومنها بطبيعة الحال كل ما تناقلته الالسنة وحفظته صدور الرجال كابرا عن كابر .
فالوثيقة اذا هي كل اثر ورثناه عن الماضي يعين على كتابة التاريخ . ولكن يبقى ان نقول ان الوثيقة لن تكون جديرة بان تحمل هذه الصفة او ان يلصق بها هذا الاسم وانها لن تصبح فاعلة في صناعة التاريخ مالم يعتمدها المؤرخ بعقله وحسه ودرايته , فالنقد الذي يمارسه المؤرخ على كل وثيقة خارجيا او داخليا سلبا ام ايجابا هو الفيصل بين الوثيقة واللاوثيقة .
من الكتب المهمة والجيدة والتي يتبع مؤلفها الاعداد العلمي والاكاديمي بين ايدي المؤرخين والباحثين كتاب (من الوثائق العثمانية في تاريخ الجزيرة العربية) وهو من اعداد الدكتور عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم الصادر في مدينة العين الامارات العربية المتحدة بطبعته الاولى عام 2000 والذي يحوي على 493 صفحة من القطع العادي هو من احدث الكتب الصادرة باللغة العربية التي توضح مكانه الوثيقة وأهميتها ومكانتها في كتابة التاريخ وسر أغواره . الكتاب يتحدث عن الوثائق العثمانية في المنطقة الجزيرة العربية والعراق بوجه خاص ويندرج في هذا الباب كل من شبه الجزيرة العربية واليمن ومتصرفية (لواء) عسير والحجاز ونجد والعراق وبغداد كولاية ثم البصرة ومنطقة الخليج بشكل عام .
وتضمن الكتاب انواع الوثائق التي يستعرضها منها داخلية سياسية , داخلية ادارية , داخلية شفرة . داخلية قلم المخصوص . الداخلية المخابرات العامة . محاضر مجلس الوكلاء . الخارجية وقلم مكتوبي التحريات، ارادة مجلس مخصوص، ارادة دخلية، ارادة عسكرية، تصنيف الارادات، ملف المعروضات والرسائل، يلريز متنوع، ادرام بلريز خاصة.
وهذه الوثائق التي تم اختيارها وتصنيفها الى جملة من الموضوعات (الموضحة اعلاه) السياسية والاجتماعية والادارية وتغطي الربع الاخير من القرن التاسع عشر الى أواسط العقد الثاني من القرن العشرين، وبغية التيسير على الباحثين جرى تقسيم المنطقة الى اقاليم جغرافية ادارية جيوسياسية, وحوفظ على التصنيف الذي اعتمد في الارشيف العثماني في استنبول ليسهل الرجوع اليها عند الحاجة.
ولابد من الاشارة الى ان لكل نوع من الوثائق التي سبق ذكرها منهج في النقد العلمي واسلوب معالجة يختلف بعضه عن البعض الاخر. فعدة الاثاري ووسائله غير عدة المؤرخ ووسائله حيث تتنوع هي الاخرى بتنوع اهتمامات المؤرخين فمؤرخ التاريخ القديم تختلف نظرته ومادته ونقده لوثائقها عن مؤرخ التاريخ الوسيط ويختلف الاخير في وسائله وبحدثه في نقد مادته الى حد كبير مع مؤرخ التاريخ الحديث والمعاصر ايضا . اما المؤرخ الذي يتناول التاريخ الثقافي او الاجتماعي. فاساليبه مختلفة تتلاقى وتفترق مع مؤرخ التاريخ السياسي فلكل مجال في تعامله النقدي ولكل منهجه في النقد والتدقيق والتمحيص حتى تصبح الوثيقة بعدئذ موثوقا بها وتصبح ثمة جديرة بحمل اسمها فتدخل بثقة الى مجال صناعة التاريخ .
ولتوضيح ذلك يمكن ان نضيف بان الوثيقة تفصح عن مكنوناتها عند اللقاء الاول هي تلك الوثيقة الرسمية التي تخلو من المشاعر والاحاسيس فهي تتشكل في العادة من الاوراق الرسمية , والمكاتبات الحكومية وفواتير الحسابات وتقارير البعثات الدبلوماسية وغير ذلك من المعاملات التي تجري بين الرؤساء والمرؤوسين في المكاتب المختلفة .
اما الوثيقة التي لا تفصح ولا تبين الا بعد حين فهي تلك الوثيقة التي تصورها المشاعر والاحاسيس وتشوبها الاهواء وتخالطها المصالح الشخصية . فمثل هذه الوثائق كالشاهد المغرض الذي يعرف الحقيقة ثم يدلس وينحاز الى سواها متعمدا، ونجد ان التعامل مع مثل هذه الوثائق يحتاج الى مؤرخ يملك من السعة في العلم والمعرفة والدراية وفسحة من الصبر ليعيد استجوابها مرة تلو الاخرى ليتحقق من صدق تفاصيل محتوياتها حتى يميز بين حقيقتها وزيفها .
والحقيقة فان مثل هذه الوثائق نادرة الوقوع في المعاملات الرسمية والحكومية عامة ولكنها كثيرة الوقوع ومتواترة في الوثائق العثمانية التي يهتم بها هذا الكتاب بل انها ربما شغلت اكثر ما ورد فيه . ففي العديد من هذه الوثائق العثمانية تختلط الامور حيث تذهب بالمؤرخ مذاهب شتى وتحتاج الى مؤرخ صابر يستقرئها ببعد نظر ليقيم عودها ويصقلها ثم يتعامل معها بعدئذ بكل اناة وتروي .
ان الوثائق العثمانية حينما تتكامل لدى الباحث مع الوثائق البريطانية ستقود في حد ذاتها الى تفسيرات صائبة للاوضاع السياسية والادارية , فالوثائق البريطانية تختلف في مجملها عن الوثائق العثمانية المعاصرة لها (في هذه المنطقة على الاقل) في ثباتها على سياسات معينة صاغتها المؤسسات البريطانية التي التزمت بتحقيق الاهداف الواضحة الجلية لتلك الدولة . فقد كانت بريطانيا تلزم موظفيها وكما هو واضح من وثائق على سنوياتهم كافة بسياستها التي يتعين عليهم تنفيذها او ان يتخلو عن وظائفهم بعكس الموظفين العثمانين او الولاة الذين يقتفون دروبا لا تؤدي الا الى خدمة مصالحهم الخاصة واستغلال الانسان لاستخلاص الميري ومبالغ الالتزام مضافا اليها الرشاوي والاتاوات التي تدخل جيوب الولاة والمتنفذين فمن عجب ما تقرأ في الوثائق محاولات لاحصاء الاغنام في هذه الولاية او تلك المتصرفية في حين لا توجد وثيقة واحدة عن احصاء السكان مثلا ولا عن مؤسسات التعليم والعلاج . ان اهداف الدولة في العراق وشبه الجزيرة العربية لم تكن واضحة لرئاسة الدولة ذاتها في استنبول . لكن المؤرخ يجد في هذه الوثائق (الفعل) و (رد الفعل) الذي غالبا ما يكون بدوره انعكاسا لاهداف شخصية للقائمين بالامر في العاصمة او الولايات .
ومن المهم التعامل موضوعيا مع الوثائق العثمانية التي يجب على المؤرخ التعامل معها بكثير من الدقة للاسباب الموضحة اعلاه .
لقد غطت هذه الوثائق الموضحة بالكتاب مساحة جغرافية شاسعة شملت شبه الجزيرة العربية بساحلها الممتد على طول البحر الاحمر حتى جنوب اليمن ثم تنقطع هناك عن مدن ومناطق الاستعمار والهيمنة البريطانية فلا نجد فيها اي ذكر للمقاطعات الجنوبية من اليمن الا ما كان من امر الاحتكاك في مناطق التماس بين الوجود العثماني والسيطرة البريطانية, كما تغفل هذه الوثائق منطقة عمان بشقيها التي تشكلها دولة الامارات العربية المتحدة حاليا الا فيما يخص علاقاتها مع قطر ونجد احيانا . ام الاحاء والكويت والبصرة فهي من المناطق الجغرافية التي ظفرت بالقدح المعلى من هذه الوثائق وياتي الاختيار للوثائق المتعلقة بالعراق عامة وبالموصل وبغداد خاصة متصلا بالشؤون الادارية والعسكرية والمالية بالبصرة وارتباطها ارتباطا عضويا بمناطق الخليج وشبه الجزيرة العربية .
لقد بذل الدكتور عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم (المعد) وهو المؤرخ الذي عرف عنه اهتمامه الكبير بالوثائق واستعمالاتها جهدا طيبا ومثابرة تنم عن فهم كامل وتام لاهمية الوثيقة ومكانتها مما يدل على خبرته الواسعة ومعرفته المنهجية التي تجعل من هذا الكتاب مرجعا مهما لكل باحث في تاريخ المنطقة.
منقول لما فيه من فائدة
اقرأ المزيد

بعض المصادر التي تخص تاريخ العراق في العهد العثماني

الكتـب العربيــة والأجنبيــة:
- إبراهيم خليل أحمد، تطور التعليم الوطني في العراق 1869-1932.
- إبراهيم فصيح الحيدري، عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد.


- أبو الثناء ألالوسي، غرائب الاغتراب ونزهة الألباب.
- أبو الثناء الالوسي، نشوة الشمول في السفر إلى اسلامبول.
- أبو طالب خان، رحلة أبو طالب خان إلى العراق.
- أحمد علي الصوفي، تاريخ بلدية الموصل,
- أديب توفيق الفكيكي، تاريخ أعلام الطب العراقي الحديث.
- أمين المميز، بغداد كما عرفتها.
- أنستاس ماري الكرملي، خلاصة تاريخ العراق منذ نشوءها إلى يومنا هذا، أورخان محمد علي، السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عصره.
- باقر أمين الورد، أعلام العراق الحديث 1869-1969.
- بطرس الكلداني، ذخيرة الأذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة والسريان.
- بيير دي فوصيل، الحياة في العراق منذ قرن 1814-1914.

- جان باتيست تافرنينة، العراق في القرن السابع عشر.
- جبرا إبراهيم جبرا وإحسان فتحي، بغداد بين الأمس واليوم.
- جعفر الخياط، صور من تاريخ العراق في العصور المظلمة.
- جعفر الشيخ باقر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها.
- جلال الحنفي، معجم اللغة العامية البغدادية، ج1، بغداد، 1978.
- جلال الحنفي، المغنون البغداديون والمقام العراقي، بغداد، ب.ت.
- جميل موسى النجار، الإدارة العثمانية في ولاية بغداد 1869-1917.
- جيمس بيلي فريزر، رحلة فريزر إلى بغداد سنة 1834.
- جيمس ريموند وليستيد، رحلتي الى بغداد في عهد الوالي داود باشا.

- خالص الأشعب، مدينة بغداد ونموها وبنيتها وتخطيطها، بغداد، 1984.

- ديولافوا، رحلة مدام ديولافوا إلى كلده العرق 1881.
- رسول الكركوكلي، دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء.
- رضا محسن القريشي، الموشحات العراقية منذ نشأتها حتى نهاية القرن التاسع عشر.
- رفائيل بطي، الصحافة في العراق.
- رفائيل بابو أسحق، تاريخ نصارى العراق.
- ريجارد كوك، بغداد مدينة السلام .
- ستيفن همسلي لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث.
- ستيفن همسلي لونكريك، تارخ العراق الحديث 1900-1950.
- سعاد هادي العمري، بغداد كما وصفها السواح الأجانب.
- سليمان فائق، تاريخ المماليك "الكولة مندة"، ترجمة محمد أرمنازي.
- سليمان فائق، تاريخ بغداد، ترجمة موسى كاظم نورس.
- صديق الدملوجي، مدحت باشا.
- طارق نافع الحمداني، ملامح سياسية وحضارية في تاريخ العراق الحديث
- عادل البكري، عثمان الموصلي قصة حياته وعبقريته.
- عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين،
- عبد الحميد العلوجي، تاريخ الطب العراقي.
- عبد الرزاق عباس حسين، نشأة مدن العراق وتطورها.
- عبد الرزاق الهلالي، دراسات وتراجم عراقية.
- تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني 1638-1917.
- عبد الرزاق الحسيني، تاريخ الصحافة العراقية.
- عبد الرحمن السويدي، تاريخ حوادث بغداد والبصرة.
- عبد الرحمن حلمي العباس السهروردي، تاريخ بيوتات بغداد في القرن الثالث عشر الهجري.
- عبد العزيز سليمان نوار، تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا الى نهاية حكم مدحت باشا.
- داود باشا والي بغداد.
- المصالح البريطانية في انهار العراق 1600-1914.

- عبد الكريم العلاف، بغداد القديمة.
- عبد الكريم العلاف، قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني الأخير .
- عبد اللطيف بندر أرغلو وآخرون، المعجم التركي العربي.
- عبد الله محمود الحاج قاسم، موسسات الموصل الصحية منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية العهد العثماني.
- عبد الله فتح البغدادي الغياثي، التاريخ الغياثي 1258-1486.
- عزيز جاسم الحجية، بغداديات.
- علاء موسى كاظم نورس، أحوال بغداد من القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
- علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي.
- علي البازركان، فصول من تاريخ التربية والتعليم في العراق.
- علي ظريف الأعظمي، مختصر تاريخ بغداد.
- علي إبراهيم عبد وخيرية قاسم، يهود البلاد العربية.
- عماد عبد السلام رؤوف، معالم بغداد العمرانية في القرون المتأخرة .
- التاريخ والمؤرخون العراقيون في العصر العثماني.
- إدارة العراق والأسرة الحاكمة ورجال الإدارة والقضاة في العراق في القرون المتأخرة "656-1337هـ/1258-1918م.
- عادلة خاتون وصفحة من تاريخ العراق في بغداد.

- فاضل البراك، المدارس اليهودية والإيرانية في العراق.
- فخري الزبيدي، بغداد، من 1900 حتى عام 1934.
- فرنسيس صائغيان البغدادي، تاريخ الأرمن الكاثوليك في العراق.

- فيصل الارحيم، تطور العراق تحت حكم الاتحاد بين 1908-1914، .
- قدري قلعجي، مدحت باشا أبو الدستور العثماني وخالع السلاطين.
- كارستن نيبور، رحلة نيبور إلى العراق في القرن الثامن عشر.
- كليمان هوار، خطط بغداد،
- ل. ن. كوتلوف، تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي من منتصف القرن التاسع عشر – 1908.
- لؤي بحري، سكة حديد بغداد دراسة في تطور ودبلوماسية قضية سكة حديد برلين-بغداد عام 1914.
- محمد أنيس، الدولة العثمانية المشرق العربي 1514-1914.
- - محمد رؤوف الشيخلي، مراحل الحياة في بغداد في القرون المظلمة وما بعدها، .
- محمد رؤوف الشيخلي، المعجم الجغرافية لمدينة بغداد القديمة بين سنتي
1270-1360هـ.
- محمد سلمان حسن، التطور الاقتصادي في العراق.
- محمد طاهر العمري، تاريخ مقدرات العراق السياسية.
-- محمد فريد بك، تاريخ الدول العثمانية.
- محمد مصطفى الفلاحي، شمامة العنبر والزهر المعبر.
-- محمد مهدي البصير، تاريخ القضية العراقية.


- محمود شكري الآلوسي، مساجد بغداد وآثارها.
- مصطفى جواد وأحمد سوسة، دليل خارطة بغداد.
- مصطفى الخالدي وعمر فروخ، التبشير والأستعمار في البلاد العربية.
- موفق بن المرجة، صحوة الرجل المريض.
- ناجي جواد، بغداد سيرة ومدينة.
- نابليون المارديني، تنزه العباد في مدينة بغداد.
- نجم الدين محي الدين الكيلاني، سيرة ومناقب أئمة التصوف.
- نعمان خير الدين الآلوسي، جلاء العينين في محاكمة الأحمدين.
- نعمان خير الدين الآلوسي، فهرست مكاتب بغداد الموقوفة.
- نيكلسون، التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبو العلاء عفيفي، .
- هاشم الوتري ومعمر الشابندر، تاريخ الطب في العراق.
- هاشم خضر الجنابي، التركيب الداخلي لمدينة الموصل القديمة، دراسة في جغرافية المدن.
- هشام جواد، مقدمة في كيان العراق الاجتماعي.
- هند فتال عسكري، تاريخ المجتمع العربي الحديث، والمعاصر.
- وليس بدج، رحلات إلى العراق، ترجمة فؤاد جميل.
- وليد الأعظمي، مجموعة الخطاطين البغداديين.
- ياسين خير الله العمري، زبدة الإثارة الجليلة في الحوادث الأرضية.
- يوسف رزق الله غنيمة، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق.
- يوسف رزق الله غنيمة، تجارة العراق قديماً وحديثاً.
- يوسف عز الدين، الشعر العراقي أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر.
- يوسف عز الدين، خيري الهنداوي - حياته وديوانه الشعري.
- يوسف كمال بيك حتاتة، مذكرات مدحت باشا، مصر.
- نوري خليل البرازي، الصناعة ومشاريع التصنيع في العراق.
اقرأ المزيد

تاريخ العلاقات بين تركيا والأرمن

بقلم : عصمت بينارك
مدير عام إدارة الوثائق بتركيا سابقا
ترجمة: كمال أحمد خوجه


من المعروف على مسرح التاريخ أن الهون وبعض القبائل التركية كانت لهم علاقات مع الأرمن، وأن هذه العلاقات استمرت وتكاثفت بصورة خاصة في عهود السلاجقة والعثمانيين. وبعبارة أخرى فإن العلاقات بين الأتراك والأرمن تعود إلى ماض سحيق.
والتوصل إلى تقييم سليم حول العلاقات التركية- الأرمنية، يتطلب منا البحث فيه خلال فترة زمنية قدرها ألف عام ابتداء من ظهور السلاجقة في الأناضول.
فقبل الفتح السلجوقي كانت في شرقي الأناضول بجهات عاني وبغراد ووان إمارات تتبع بيزنطة وتعرف بـ" أردزوروني". إلا أن بيزنطة ألغت هذه الإمارات وهجّرت أهلها إلى الأناضول. فأما الذين هُجّروا إلى كيليكيا فقد استغلوا الحملات الصليبية وأسسوا مملكة كيليكيا الأرمنية. ومن المعروف أن نهاية هذه المملكة كانت على يد المماليك عام 1375.
وبعد عام 1070 أصبحت الأراضي التي يسكنها الأرمن تحت حكم السلاجقة، ثم الخوارزميين والإيلخانيين والمغول والقره قيون ، وبعض منها تحت حكم الصفويين.
وبالفتوحات التي تمت في عهد السلطان سليم الأول ومن بعده السلطان سليمان القانوني صارت هذه الأماكن تحت حكم العثمانيين. وعندما سيطر العثمانيون على هذه الأراضي لم تكن هناك أية دولة أرمنية مستقلة في الشرق منذ أربعمائة وسبعين عاما وفي الجنوب منذ مائة وخمسين عاما.
ومن حيث الأساس، لم يكن الأرمن من سكان الأناضول الأصليين. وأغلب الاحتمال أنهم جاءوا من تراقيا إلى الأناضول في أواخر القرن السادس قبل الميلاد ، واستقر خليط من قبائل تراك-فريغ في بلاد "اورارتو" . والأرمن من الناحية العرقية خليط من النورديك والألبين نشأ من المصاهرة بين السكان المحليين والهنود الأوربيين. وبعبارة أخرى فإنهم ليسو عرقا متجانسا. أما لغة الكتابة عندهم فقد ظهرت بعد اعتناقهم النصرانية.
أما الأماكن التي سكنها الأرمن فكانت عبر التاريخ على الطرق بين آسيا وأوربا وبين القفقاس والأناضول والقفقاس وسوريا. تلك الأراضي بسبب وضعها الإستراتيجي والجغرافي كانت مسرحا دائما للصراع بين الدول التي الأناضول وإيران وقفقاسيا . وكانت النتيجة أن تحدد مصير الشعب الأرمني في هذه الأراضي التي سكنها وعاش فيها.
وكما بينا سابقا، فإن الأتراك عندما فتحوا الأناضول لم تكن فيها دولة أرمنية مستقلة.
وفي الفترة التي سبقت الفتح التركي للأناضول كان الأرمن موضعا للصراع الدائم بين بيزنطة وإيران وبين بيزنطة والدول الإسلامية؛ وأرغموا على الهجرة لأسباب سياسية واختلافات مذهبية.
بينما كان الأرمن أصحاب أرض تحت الحكم التركي، وأصبحت لهم حرية العيش وممارسة اللغة والعقيدة ضمن إطار الأحكام الإسلامية.
فالأتراك عاملوا غير المسلمين في البلاد التي فتحوها ضمن الحقوق التي يعترف بها المسلمون لأهل الذمة وفي إطار من التسامح والمرونة التي جاوزت ذلك العصر بمراحل كثيرة. حيث أعطوا لهم الحرية الكاملة في لغتهم ودينهم وعقيدتهم وكافة أنواع العلاقات بينهم.
حتى إن السلطان محمد الفاتح عندما فتح استنبول اعترف ببطريرك الروم زعيما للنصارى، ومنح للبطريرك وضعا يوازن فيه بين أتباعه وبين الدولة.
وفي إطار هذا الوضع استطاعت الفئات النصرانية الحفاظ على هويتهم الدينية والقومية بكامل حريتهم. خاصة إذا أخذنا التعامل السائد في أوربا تلك الفترة بعين الاعتبار فسنجدها أدلة لا يمكن إنكارها في أن السماحة وحسن التعامل تجاوزت حدود ذلك العصر.
من المعروف أن المسلمين واليهود لم يستطيعوا العيش في إسبانيا بعد عام 1492. ووجدوا الحل في اللجوء إلى الأراضي العثمانية. وفي عام 1572 شهدت فرنسا مذابح سانت بارتلمي . كما عانت أوربا من الحروب الدينية حتى عام 1648. بينما نعم غير المسلمين في ظل الحكم العادل للدولة العثمانية حياة ملؤها السعادة والأمن والطمأنينة.
وحينما انقسمت إمارات الأناضول بعد معركة أنقرة عام 1402 بقيت بلاد الروم وأكثرية سكانها حينذاك من النصارى موالية للدولة العثمانية وفضلت الحكم العثماني على حكم البلقان.
وقد أسس السلطان محمد الفاتح بعيد فتحه استنبول البطريركية الأرمنية إلى جانب بطريركية الروم عام 1461[KH1][FONT='Tahoma','sans-serif'][1][/font].
والأرمن على مر القرون في ظل الدولة العثمانية كانوا محل الثقة في بعض الأوقات بحيث عينوا في مهام خطيرة. والواقع فإن كل من يقبل أن يكون في عداد الرعايا بمفهوم الدولة العثمانية له إمكانية الوصول إلى أي منصب من غير تفريق بين الناس في الأديان والأعراق. ومما لا شك فيه أن الأرمن الذين عرفوا "بالرعايا المخلصين" في الدولة العثمانية، عاشوا في هذه الفترة أكثر الأعوام استقرارا وطمأنينة في تاريخهم.
وقد عمل الأرمن في قراهم وبلداتهم شرقي الأناضول عموما بزراعة أرضهم وبالصناعات المحلية وبالتجارة على نطاق ضيق. أما في المدن فكانت لهم نشاطات كثيرة كالتجارة الداخلية والخارجية والصرافة والتمويل والتعهدات والتوريدات وغير ذلك من الأعمال ومستوى معيشتهم أعلى من مستوى معيشة الأتراك، هذا المستوى الذي لم يحدث أي انزعاج أو تبرم لدى الأتراك والمسلمين، وعاش الأرمن منذ تأسيس الدولة العثمانية جنبا إلى جنب مع الأتراك في أخوة وهناء، وتمتعوا بالحرية الدينية في تسامح وتفاهم.
إن عدم وجود الوحدة المذهبية فيما بينهم وعدم تشكيلهم الأكثرية في الأماكن التي يعيشون فيها بالإضافة إلى الحكم التركي المتسم بالتسامح أعطى طائفة الأرمن صفة أكثر المجتمعات التئاما بالأتراك. ونتيجة لذلك صار الأرمن أكثر الأقليات تبنيا للثقافة التركية.
وبسبب انسجامهم مع الثقافة التركية عينوا في مختلف مناصب الدولة بعد ثورة الروم عام 1821؛ وسمح لهم في عهد محمود الثاني بوضع "الطغراء" على قبعاتهم دليلا على إخلاصهم. وبعد إعلان الخط الهمايوني عام 1839 ، عينوا في مناصب في القصر وفي وزارة الخارجية، وبعد فرمان الإصلاحات عام 1856 جيء بهم إلى مناصب الدرجة الأولى كالوالي والوالي الأول والمفتش والسفير وحتى الوزير.
وقبل الحرب العثمانية الروسية لم تكن هناك مسألة اسمها المسألة الأرمنية، لكنها بدأت بعد احتلال الروس لبعض المدن التركية ، عندما حرضوا الأرمن في هذه المدن على الثورة ضد الباب العالي بهدف الاستقلال وليكونوا وسيلة لتحقيق أغراضهم. وبعد إضافة الأحكام المتعلقة بإجراء الإصلاحات في الأماكن التي يعيش فيها الأرمن إلى معاهدتي أياستفانوس وبرلين، ظهرت المسألة الأرمنية بتدخل الدول الكبرى في الشئون الداخلية للدولة العثمانية متذرعة بهذه الأحكام. وبتحريض الأرمن بمختلف الوعود وقعت سلسلة من الأحداث الدموية . ومما لا شك فيه أن نشاطات المنصرين البروتستانت كانت فعالة في تهيئة أسباب هذه الأحداث.
فأمريكا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول التي تتظاهر بحماية حقوق الأقليات النصرانية التي تعيش في الأراضي العثمانية، قامت بتحريض الأرمن خدمة لمصالحها،وامتنعت هذه الدول عن نشر مراسلات ومكاتبات الحكومة العثمانية وكذلك الممثلين الأجانب التي تعبر عن الحقائق المتعلقة بوضع الأرمن ومعاملتهم، لأنها تتناقض مع مصالحها وسياساتها.
ومن حيث الأساس فإن المسألة الأرمنية تشكل جزءا من المسألة الشرقية. فالدول الأوربية الاستعمارية الكبيرة المعروفة بالدول العظمى (فرنسا وإنجلترا وروسيا وألمانيا)أرادت تأمين مصالحها عن طريق تمزيق وتفتيت الدولة العثمانية فلجأت إلى دعم الحركات القومية والانفصالية التي بدأت بين الرعايا غير المسلمين بصورة خاصة، وعملت على تأسيس دول في البلقان تكون تحت نفوذها ولتحقيق ذلك قام الروس بحماية الأرثودكس ،والفرنسيون بحماية الكاثوليك والنمسا بحماية كاثوليك البلقان . وبتأثير من التحريض الخارجي والتيارات القومية، ثار قوميو البلقان وكانت النتيجة أن ظهرت دول اليونان والصرب ورومانيا والجبل الأسود، وصار لبنان عام 1860 يتمتع بالحكم الذاتي.
وفي القرن التاسع عشر صار غير المسلمين هدف المسألة الشرقية وكذلك وسيلتها. لأن السياسة الاستعمارية لأن الدول العظمى وجدت نقاط مشتركة بين مصالحها ومصالح الأقليات غير المسلمة . ولما أحس غير المسلمين بذلك تطوعوا لأن يكونوا الممثلين الأحياء للمسألة الشرقية وقوتها المحركة . فجملة القول أن المسألة الشرقية تعني بالنسبة لغير المسلمين تمزيق الدولة العثمانية والقيام بالإصلاحات التي تحقق مصالحهم، والحصول على التنازلات والامتيازات التي تؤدي بهم ضمن هذا الإطار إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال[FONT='Tahoma','sans-serif'][2]. [/font]
فمن المعروف أن أسباب ظهور المسألة الأرمنية ليست ناشئة فقط عن الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والإداري والسياسي للأرمن الذين يعيشون في أراضي الدولة العثمانية ، بل إن أصل المسألة هو عبارة عن استراتيجية استعمارية دولية وسياسة توازن بين القوى سميت "بالمسألة الشرقية ".
وعبارة" المسألة الشرقية" التي أخذت مكانا لها في التاريخ السياسي، تعني العمل على تمزيق الدول العثمانية من قبل الدول الغربية.
وجاء في أشمل تعريف للمسألة الشرقية ضمن تصور التاريخ السياسي في القرن الذي نعيش فيه:" مجموعة المسائل التاريخية الناشئة عن رغبة الدول الأوربية الكبرى في وضع الدولة العثمانية تحت سيطرتها ونفوذها اقتصاديا وسياسيا أو اختلاق الأسباب لتمزيقها وتأمين استقلال الشعوب التي تعيش تحت الحكم العثماني" [FONT='Tahoma','sans-serif'][3][/font]
ويجب أن نعرف بأن المسألة الأرمنية التي اختلقها الغرب لتحقيق أطماعها في الدولة العثمانية في فترة تسارع انهيارها السياسي، نابعة من مصالح أوربا الاقتصادية والفكرية والسياسية والدينية والثقافية.
ولا نخطئ إذا قلنا أن الحكم المسبق على الدولة التركية والشعب الأرمني بالحقد المتوارث وبشعور الكراهية والانتقام والسبب في القتل وإزهاق الأرواح ما هو إلا انسياق أعمى وراء المؤامرة السياسية التي أعدتها المصالح الروسية والإنجليزية والفرنسية[FONT='Tahoma','sans-serif'][4]. [/font]
فالسياسة التي اتبعتها روسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا حيال الدولة العثمانية والأرمن تأتي في مقدمة الأسباب التي أدت إلى ظهور المسألة الأرمنية. ويحسن بنا أن نوجز مسلسل السياسة التي اتبعتها هذه الدول.

آثار السياسة التي اتبعتها روسيا:
أما روسيا التي أصبحت دولة لها نفوذ في أوربا في عهد القيصر بطرس الأول(1682-1725) فكانت دائما تطمع في المضائق. فروسيا التي تشعر بالميل الشديد لبلاد البلقان وتريد السيطرة عليها أو جعلها تدور في فلكها، أنشأت قنصليات في هذه البلدان، وحرضتها ضد الدولة العثمانية وبذلك حصلت على دور حامي الاتحاد السلافي- الأرثودكسي وشعوبه. ولم تفوت الفرصة في استغلال الاضطرابات واختلال التوازن في المنطقة في تطبيق هذه السياسة. ونجحت في إشعال ثورة الصرب عام 1806 واليونان عام 1827 وثورات البوسنة والهرسك والبلغار والصرب عامي 1875-1876 وشجعت على انتشارها. وكانت نتيجة هذه الثورات أن روسيا بسياستها هذه أرادت الحصول على أراض من الدولة العثمانية في المناطق التي أثارت فيها الاضطرابات. لكن هذه السياسة لم تلق النجاح دوما بسبب تعارضها مع مصالح إنجلترا وفرنسا في بعض الأحيان؛ ولذلك لجأت إلى تطبيق سياسة تقاسم الأسلاب مع الدول الأخرى قبل أن تقدم للعمل ضد الدولة العثمانية.
وروسيا التي أيقنت بأن أحلامها في الوصول إلى المياه الدافئة وتحولها إلى قوة يسيطر على البحر المتوسط والشرق الأوسط ستتحقق بتفتيت بلاد أراضي الأناضول، ولذلك سعت دوما للسيطرة على خط أرضروم – إسكندرون الذي يعيش فيه الأرمن بكثرة، فبدأت اتصالات روسيا بالكنائس الأرمنية في الدولة العثمانية ودعمها للعناصر الإرهابية من الأرمن.
وروسيا التي عملت على تحقيق أطماعها في شرقي الأناضول على يد الأرمن الذي دخلوا في خدمة القيصر ودفعت الأرمن إلى مقدمة الصفوف في حروبها مع إيران. وبعد أن نجحت في الحصول على أرمينيا الشرقية بموجب معاهدة تركمانجاي عام 1828 وانضم أرمن إيران إلى هذه الاتحاد استخدمت قوتها الجديدة في الهجوم على الدولة العثمانية. ولما طالب أربعون ألفا من الأرمن الذين هاجروا إلى روسيا بموجب معاهدة أدرنه عام 1829 بإنشاء أرمينيا يكون لها الحكم الذاتي، رفضت روسيا مع أنها نصبت نفسها حامية للأرمن لتحقيق مطالبهم هذه في الأراضي العثمانية.



آثار السياسة الإنجليزية:
واهتمام الإنجليز بالدولة العثمانية ومن بعدها بالأرمن، له علاقة وثيقة بالمد الروسي نحو الجنوب بصورة تهدد المصالح الإنجليزية وتصبح الدولة دولة قوية في منطقة البحر الأسود.
والمعروف بأن دعم إنجلترا للدولة العثمانية ضد روسيا بهدف الحيلولة دون تطوير مصالحها بشكل يهدد مصالحها ، استمر من عام 1783 وحتى الحرب العثمانية الروسية في 1877-1878.
وبالرغم من أن إنجلترا فصلت النمسا عن التحالف مع روسيا خلال الحرب العثمانية الروسية عام 1787-1792، وأخذت بروسيا إلى جانبها بعد الثورة الفرنسية لتضغط على روسيا، فإنها وقفت إلى جانب روسيا خلال الحرب الفرنسية-الروسية.
ويحلل رئيس الوزراء الإنجليزي في تلك الفترة موقف بلاده المعارض للدولة العثمانية خلال ثورة اليونان قائلا بأن هذا الموقف من إنجلترا لا يعني التفاهم مع روسيا، وكان الأحسن أن تكون اليونان التي تأكد حصولها على الاستقلال مدينة في ذلك لإنجلترا وهي الدولة الصديقة في البحر المتوسط بدل أن تكون مدينة في ذلك لروسيا."
وقد دعمت إنجلترا الدولة العثمانية ضد ثورة والي مصر محمد علي باشا لكنها عام 1838 أرغمت السلطان محمود الثاني على توقيع "اتفاقية التجارة الإنجليزية" فكانت سببا في خسائر جسيمة من الناحية السياسية والاقتصادية للدولة العثمانية.
وسبب آخر مهم في تغيير انجلترا لسياستها تجاه العثمانيين الاهتمام الذي أولته أوربا للمسألة الأرمنية اعتبارا من عام 1880.
ولما كانت فرنسا حامية الكاثوليك في الدولة العثمانية ، وروسيا حامية الأرثودكس ، فإن إنجلترا نجحت في إضافة حرية تغيير الدين في فرمان الإصلاحات بهدف زيادة عدد الأرمن البروتستانت. وبذلك اتبعت سياسة حماية البروتستانت ووجدت الفرصة في التدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية، وأولت اهتمامها لتطوير الثقافة الأرمنية وعملت على إثارة النعرة القومية للأرمن.
ويعتبر احتلال روسيا لبعض المدن في الأناضول خلال الحرب العثمانية الروسية في 1877-1878 وتحريضها الأرمن ضد الدولة العثمانية بغية انفصالهم نقطة البداية في المسألة الأرمنية.
وقد وافقت إنجلترا على المسألة الأرمنية بعد أن أدركت بأنها لن تستطيع بمفردها منع الأعمال العدوانية الروسية ضد الدولة العثمانية وحماية مصالحها، فخطت الخطوة الأولى وحصلت على جزيرة قبرص عن طريق تهديد الحكومة العثمانية، لتكون قاعدة لها ضد روسيا كما فرضت على الدولة العثمانية إجراء الإصلاحات في ولايات شرقي الأناضول لصالح النصارى الذين يعيشون في تلك المناطق. وبذلك جعلت المسألة الأرمنية قضيتها.
ومع أنه لم يكن للأرمن أية نية في الانفصال عن الدولة العثمانية وتأسيس دولة مستقلة قبل الحرب العثمانية- الروسية، فإن الروس أدرجوا المسألة الأرمنية في معاهدة أياستفانوس. كما أضافت إنجلترا المسألة الأرمنية إلى معاهدة قبرص دون أن تشعر بالحاجة إلى أخذ رأي الأرمن حول الموضوع. فالإنجليز دعموا أرمينيا مستقلة معتقدة بأنها تضع روسيا في مأزق من جهة وتحول دون تطور الدولة العثمانية من جهة أخرى.

آثار السياسة التي اتبعتها فرنسا:
حظوة الامتيازات التي أعطاها السلطان سليمان القانوني لفرنسا عام 1535 تفضلا منه وتكرما، كانت بداية علاقات الصداقة بين البلدين. هذه العلاقات التجارية والسياسية استمرت وتوسعت مع امتيازات 1740. وفي مقابل ذلك فإن فرنسا خلال الحصار الثاني لفيينا، أعلنت عن موقفها من خلال مساعدتها للنمسا، وكانت حملة نابليون بونابرت على مصر التي انتهت بهزيمته استمرارا لهذا الموقف. إلا أن فرنسا التي تظاهرت بصداقتها مع الدولة العثمانية خلال حربها مع روسيا، عادت إلى موقفها المتناقض مع صداقتها عندما تفاهمت مع روسيا عام 1807.
وفي ثورة محمد علي باشا دعمت فرنسا هذه الثورة . لكنها خلال حرب القرم عادت ووقفت إلى جانب الدولة العثمانية.
ولما خسرت فرنسا في حربها مع ألمانيا عام 1870 بقيت محرومة بعد الوقت من المناورات السياسية ومن دورها في التأثير على الدول الأخرى. ومع أنها اشتركت في مؤتمر برلين لكن اشتراكها هذا لم يكن فعالا. إلا أن فرنسا عادت إلى دورها السابق مع إعلان الجمهورية مرة أخرى وصارت تدعم الصراع السياسي الذي تخوضه مختلف المجموعات وأصبحت المأوى والملاذ لهم ، ومن ذلك تعهدها بحماية الكاثوليك في الدولة العثمانية ولعبت دورا مهما في قضية الأماكن المقدسة التي كانت سببا في حرب القرم.
وفرنسا التي لم تركن إلى هزيمتها أمام ألمانيا بدأت بالتقارب مع روسيا التي كانت على خلاف مع ألمانيا أثناء مؤتمر برلين عام ، 1878 كما قامت بحل الخلاف في وجهات النظر مع إنجلترا، وبدأت هذه الدول الثلاث بالتنسيق فيما بينها لتمزيق الدولة العثمانية. وكان لفرنسا دور نشط جدا في وضع خطط التقسيم والتمزيق.
[FONT='Tahoma','sans-serif'][1][/font] لمزيد من التفاصيل عن العلاقات التركية الأرمنية ر:عبد الرحمن جايجي، "حقائق في العلاقات التركية الأرمنية"؛ حلقة دراسية عن مشاكل تركيا ضمن التطورات التاريخية ، أنقرة 8-9 مارس/ آذار 1990، ص 75-114 باللغة التركية ، وانظر: نجاة غوينوج ، الأرمن أيام الحكم العثماني، استنبول، 1983؛ سعدي قوجاش،الأرمن عبر التاريخ والعلاقات التركية-الأرمنية، أنقرة،1967؛ أسعد أوراس، الأرمن في التاريخ والمسألة الأرمنية، استنبول،1987؛صلاحي رامسدان صونييل، The Ottman Armenians,London؛ عزمي سوسلى،الأرمن وحادثة تهجير عام 1915، أنقرة،1990.

[FONT='Tahoma','sans-serif'][2][/font] لمزيد من المعلومات انظر: بايرام قودامان، المسألة الشرقية والتطور التاريخي، حلقة دراسية عن مشاكل تركيا ضمن التطورات التاريخية، أنقرة، 8-9 مارس/ آذار 1990 ، ص 59-63 وما بعدها ؛ بايرام قودامان، "أسباب ظهور المسألة الأرمنية" ، مجلة الثقافة التركية، 219،آذار- نيسان 1981، ص 240-149 ، وانظر كذلك : M.S Anderson, The Eastern Question 1774-1923,New York , 1978 أنور ضياء قارال، التاريخ العثماني، و.ج.، 4 ط أنقرة، 1983، ص 203-204 ؛ Edward M.Earl,Great Powers and Bagdad Railway, New York,1966 P 9-23

[FONT='Tahoma','sans-serif'][3][/font] جواد كوجوك، وثيقة هامة حول المسألة الشرقية؛ جامعة استنبول مجلة تاريخ كلية الآداب، عدد(آذار 1979)، ص 607- 638؛ أردال إيلتر، نظرية المسألة الأرمنية وثورات زيتون، ( 1780-1880)، أنقرة، 1988


[FONT='Tahoma','sans-serif'][4][/font] ناشدة كرم دمير، ما قاله التاريخ لأم أحد الشهداء: المسألة الأرمنية بتركيا. الطبعة الثالثة. أنقرة، 1982
اقرأ المزيد

النسابون وأثرهم في تدوين التاريخ العربي الإسلامي

اهتم العرب بالنسب اهتمامهم بحياتهم؛ لأنه يعدّ بمثابة الاسم من الجسد، وأنّ أول ما يتعرف عليه الإنسان هو انتسابه إلى أبويه، ومن ثم تكبر دائرة النسب مع العائلة والعشيرة. وقد عدّ العرب معرفة الأنساب سببًا في التعارف فيما بينهم(1).
ومن الملاحظ أنّ الفرد العربي في فترة ما قبل الإسلام يعتز اعتزازًا كبيرًا بانتسابه إلى قبيلته، ويعدّ حياته ومصلحته مرتبطة بشكل مباشر بالقبيلة ومصالحها. ونشاهد هذا الارتباط المباشر بشكله الواضح عند البدو ولا نشاهده بهذا الوضوح عند أهل الحضر. ومردّ هذا الاختلاف هو وجود السلطة في المدينة واستقرار الأمن، كما أنّ امتزاج أفرادها واختلاطهم أكثر في البوادي والأرياف، فضلاً عن قرب هذه المناطق من بلاد الأعاجم، وقد أضعف وشائج الارتباط في الدم والنسب(2).

وكان اهتمام العرب بالنسابين كبيرًا جدًّا إذ كان لكل قبيلة نسابة أو أكثر(3) فيحتفلون بظهوره كاحتفالهم ببروز شاعر؛ فكانت هذه الحفاوة والاهتمام ليبرز انتسابهم إلى الجد الأعلى للقبيلة والذود عنها بين القبائل. وللعرب اهتمامات كبيرة بالأنساب قبل الإسلام، فكانوا يعيبون على القبيلة التي تجهل نسبها وإلى أيّ جذم تنتمي، فإنّ كتّاب النسب يجمعون على أنّ العرب جذمان (الجذم الأصل) أحدهما عدنان والآخر قحطان، وإلى هذين الجذمين ينتهي نسب كل عربي في الأرض، ولابد أن يقال له عدناني أو قحطاني(4). وبهذا فإنّ القبيلة التي لا يستطيع رجالها الانتساب إلى أحد الأصلين تكون ضعيفة الجانب في تعاملها مع القبائل الأخرى، وأنّ القرآن الكريم فيه الكثير من الآيات التي تؤكد على النسب وصلة الرحم والإحسان إليهم(5)

نحو قوله تعالى( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (6).

وفي قوله تعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ )( 7 )

و قوله تعالى ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(8)

.. وقد خاطب القرآن الكريم الناس بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّاللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (9)

ويبرز اهتمام الرسول بذلك من خلال أحاديثه نحو قوله عليه الصلاة والسلام "تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأجل، مرضاة للرب"(10)، وأنّ التعرف على النسب حسب أحكام الشريعة فرض وواجب لكي يتعرف فيه الإنسان على محارمه في الناكح، وأن يتعرف على كل ما يتصل به برحم يوجب ميراثًا أو يلزمه صلة أو نفقه عليه(11).

فقد استمر العرب في صدر الإسلام في العناية بالنسب فكان اهتمام الخليفة عمر بذلك واضحًا فعندما نظم ديوانًا للجند استعان بمجموعة من النسابة الكبار في تدوين أسماء القبائل ومقدار أعطيات الجند للعطاء ، فكان اعتماده على مخرمة بن نوفل وعقيل بن أبي طالب، وكان أساس تنظيمه يعتمد على القرابة من الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى السابقة في الإسلام(12).

وعندما أمر الخليفة عمر رجاله بتمصير الأمصار على أثر نجاح جيوش التحرير العربية الإسلامية في تحرير كل من العراق والشام ومصر، قام قادة الفتح باختيار مواضع مناسبة لتكون قواعد للجند وموضعًا لإقامة عوائلهم وذويهم؛ فقد اعتمد هؤلاء القادة قواعد وأسس محددة لإسكان الناس في هذه الأمصار، فقاموا بإسكانهم حسب قبائلهم وصلة النسب بينهم، مراعين في هذا التقسيم الأماكن التي جاؤوا منها(13).

وينسب إليه القول الآتي: "تعلّموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال: من قرية كذا(14)، يقصد بكذا ينسب الرجل نفسه إلى المدينة الفلانية أو إلى مهنته لكونه يجهل نسبه الحقيقي إلى أيّ من القبائل ينتمي.

وأبناء القبيلة يعتقدون أنهم ينتمون إلى أصل واحد مشترك يجمعهم، والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو النسب وأنّ هذه الرابطة تولد عندهم الشعور بالتماسك والتضامن والاندماج فيما بينهم(15).

قال ابن خلدون عن أفراد القبيلة: "لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلاّ إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم؛ إذ إنّ النصرة لكل واحد منهم على نسبه وعصبيته أهم، وما يجعل الله تعالى في قلوب عباده في الشفقة والرحمة للنصرة ذوي أرحامهم وأقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والولاء، وتعظم رهبة العدوّ لهم(16).

وقد جسّد الشاعر كلثوم بن وائل بن سجاح الكلبي الولاء للقبيلة والدفاع عن نسبها والاعتزاز برجالها بقوله:

إننـا للصميم من يَمَـنٍ

بنا تنال الملـوك ما طلبت

كم فيهم من متـوّج ملك وغرة النـاس حين تنتسب

وأدركت ثأرهـا بنا العرب

ومن خطيب لسانه ذرب(17)

وقد رتّب علماء الأنساب القبائل العربية على مراتب لكنهم لم يتفقوا على تقسيم موحّد فيما بينهم، بالإضافة إلى أنها تصانيف نظرية أكثر مما هي عملية، ولكي يمكن تطبيقها على واقع القبائل بشكلها الكامل، فكان توظيف هذا التقسيم أكثر ملاءمة في توزيع شجرة نسب القبيلة، وكما هو مبيّن في أدناه:

1- الجذم: وتعني به الأصل، ويعدّ قحطان الجد الأعلى لقضاعة.

2- الشعب: وهو الذي يجمع عددًا من القبائل ويسمى شعب، كقضاعة.

3- القبيلة: وهي دون الشعب، وما انقسم فيه الشعب أصبح قبائل، ككلب.

4- البطن: وهو دون القبيلة، وما انقسم فيه القبيلة إلى أقسام، كبني رفيدة.

5- الفخذ: وهو أصغر من البطن وما انقسم فيه البطن إلى فروع، كبني عذرة(18).

إنّ الاهتمام بالنسب عند العرب جعله ينتقل إلى غير العرب، وأخذوا يخترعون لأنفسهم شجرة نسب أوصلتهم بأجداد العرب القدماء(19).

وكذلك فقد كان للمصاهرات بين القبائل دورها الكبير والفعال في ربط أواصر المحبة والقربى بين القبائل؛ إذ دأب سادات القوم على الزواج من بنات رؤساء القبائل الكبيرة ذات المكانة البارزة بين القبائل العربية المجاورة لها(20).

تدوين الأنساب في صدر الإسلام:

كانت عناية العرب ودرايتهم قبل الإسلام بالأنساب كبيرة، واستمر ذلك في عصر صدر الإسلام، وذلك لأنها كانت تغذي الشعراء في ميدان الفخر والهجاء والنقائض والتي أصبح لهذا الفن اهتمام كبير في تدوين وحفظ أخبار العرب ومعاركهم(21).

وإنّ اهتمام الخليفة عمر بن الخطاب بتدوين أسماء المحاربين وأهليهم حسب قبائلهم أعطى للأنساب أهمية جديدة، وكان حافزًا إضافيًّا للاهتمام بهذا الجانب الاجتماعي(22).

والتي تعدّ البدايات الأولى في العصر الإسلامي وتشجيعًا كبيرًا لعملية التدوين التاريخي. وإنّ جوهر هذا الاتساع لدوافع، ويبرز منها دافع معرفي فحواه أنّ لكتب الأنساب قيمة في كتابة التاريخ العربي، وأنّ هذه الأهمية تتمحور من خلال تثبيت استمرار النوع البشري من خلال تأكيد سلسلة الانتماء ما بين الابن إلى الأب والأب إلى الجد وهكذا؛ فهي إذن دلالة بشرية تبحث في كيفية تكاثر البشر من خلال الزواج وأشكاله ونظام القرابة الذي يؤسسه نظام الزواج، ودلالة زمانية قوامها الوعي باستمرار الزمن وتقسيمه على أساس الأجيال. ومن خلال هذه المصاهرة ينتج عرضيا متحقق معرفي جوهره تطور أشكال التنظيم الاجتماعي انطلاقًا من العائلة وشكل الاتساع القرابي ومستوياته (الشعب - القبيلة - البطن - الفخذ) والأسس التي يؤسس عليها هذا التنظيم الاجتماعي ومتعلقاتها(23).


وإنّ الأنساب قد أهملها الإسلام في البداية من حيث المبدأ إلا أنها عادت فوجدت حوافز جديدة لظهورها عند تدوين الدواوين ومشكلة العطاء، فتنظيم الدواوين والعطاء وسكن القبائل وفِرَق الجيش إنما تم على أساس قبلي؛ وهذا ما أعطى الأنساب شأنًا ماديًّا أضيف إلى شأنها القبلي السياسي في التنافس بين العرب أنفسهم بعد ظهور أرستقراطية جديدة في الإسلام وتوزيع القبائل في الأمصار وتنازعها في المفاخر والمناصب، ويضاف إلى ذلك النـزاع الاجتماعي مع الموالي وظهور الأفكار والحركات الشعوبية، وحاجة العرب إلى الدفاع عن مراكزهم وأوليتهم الاجتماعية(24).

وكان ذلك من الأسباب في قبول علم الأنساب في صدر الإسلام وإعطائها مكانها بين المعارف الإسلامية المهمة المطلوبة. وبهذا الشكل أضحى حفظ الأنساب وما حولها وتدوين كل أولئك فرعًا أساسيًّا من فروع التاريخ حتى ظهرت تواريخ خاصة على أساسه(25)،

(حذف نسب قريش) لأبي فيد مؤرج السدوسي البصري (ت195هـ) و(النسب الكبير) لهشام الكلبي (ت204هـ) و(نسب قريش) لمصعب الزبيري (ت236هـ). وكان من الطبيعي أن يكون النسابون الأولون هم في الوقت نفسه من الإخباريين الأولين كمحمد بن السائب الكلبي وابنه هشام وهيثم بن عدي(26).

وبعد أن دوّنت بعض الأنساب اتفاقًا ومن أفواه رواتها وبأقلام من اهتموا بها عن هذه القبيلة أو تلك، كما فعل الفقعسي الذي كتب مآثر بني أسد(27).

وحين انصرف النسابون إلى جمع المادة وتسجيلها جمعوا معها ومن حولها الكثير من المادة التاريخية التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابها. ولعل أول خط تاريخي كتب في صدر الإسلام إنما كان في علم النسب، وكان على يد أولئك ، فعهد إليهم بوضع سجلات الأنساب التي أنشأهاالذين أتى بهم الخليفة عمر بن الخطاب وهم:

أ- جبير بن مطعم بن عدي القرشي.

ب- عقيل بن أبي طالب عبد مناف الهاشمي - شقيق علي رضي الله عنهما

ج- مخرمة بن نوف بن أهيب الزهيري القرشي(28).

فسجلات هؤلاء التي دوّنوها كانت أساس كتب النسب وسجلاته الرسمية في الإسلام. وقد سجلت في الأمصار العربية وخاصة في الكوفة والبصرة، ومن ثم في واسط من العراق، وفي دمشق بالشام وفي مصر سجلات أنساب أخرى كان مركزها دواوين (الجند)، وكان مصير بعضها هو الحرق خلال فتنة ابن الأشعث سنة 82-83هـ(29).

وعلى هذا الأساس ارتبط نظام الأنساب بالتاريخ في ذهن المشتغلين بها وعند الذين كتبوا تاريخ الثقافة العربية واهتموا بتطور الوعي التاريخي عند العرب. وهذا الارتباط لم يأت من فراغ، إنما هو محصلة طبيعية لتداخل المعرفة بين المختصين وللمهمة المشتركة بينهما(30)

، ويظهر الوعي بارتباط التاريخ بالأنساب من خلال رواية أوردها السمعاني عن رجل سأل عنه فقالوا: رجل عالم بأيام الناس وعالم بالعربية وعالم بالأشعار وعالم بأنساب الرسول عليه الصلاة والسلام و العرب(31).

إنّ هذا التواصل ليس هامشيًّا أو جزئيًّا وإنما هو ارتباط متكافئ لصنفين من صنوف المعرفة، بل ربما المكانة الأكفأ للأنساب. أما في الإسلام فإنّ الأمّة توحدت اعتقاديًّا، وتم تجسيد هذه الوحدة اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا على أساس الدور الإنساني للأمّة العربية، كما عبّر عنه الإسلام فاتسع نطاق الاهتمام بالتاريخ بحكم اتساع نطاق شموليته وحيوية التجربة التاريخية للأمّة وعنفوانها، وقد انعكس هذا التطور على الأنساب التي أصبحت جزءًا من التاريخ. إنّ هذا الارتباط يحتم دورًا للأنساب في كتابة التاريخ من منطلق اهتمامها بالأنساب(32).

وقد خدمت دراسات الأنساب علم التاريخ في المادة وفي خطة الكتابة؛ فقد تجددت العناية بالأنساب في صدر الإسلام(33)، وجاء انتشار الديوان بدافع جديد للاهتمام بها، وقد زاد اهتمام الأمويين بالأنساب ووضعت لهذا الغرض سجلات بها، وكان هذا التشجيع ابتداءً من عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ومثل هذه الدراسات يروى أنّ الخليفة الوليد الثاني أمر بعمل سجل وافٍ بالأنساب(34).

وجاءت المعلومات عن الأنساب في الشعر العربي شفاهًا وخاصة شعر النقائض. وفي الروايات العائلية والقبلية، ومن سجلات دواوين الجد، وكانت عنايتهم في البداية على نسب قبيلة من القبائل، ثم تطور فظهر نسابون عنوا بأنساب أكثر من قبيلة، وقد خلق ذلك من جهة نوعًا من الشعور بالأمّة الواحدة، وقد تبلور ذلك في فترة جمع الروايات في القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي(35).

أشهر النسابين العرب في صدر الإسلام:

ظهر نسابون كثيرون اهتموا بهذا الجانب في الحياة الاجتماعية كان من أبرزهم:

1- زياد بن أبي سفيان (ت53هـ/672م):

يذكر أن زياد بن أبيه المعروف به، قد ألّف كتابًا في الأنساب تضمّن معظمه في مثالب العرب(36)، فيبرز هذا الاهتمام من زياد بهذا الجانب من الأنساب إلى قصة نسبه المغموز به واختلاف الرواة فيه وكيفية استلحاق الخليفة معاوية بن أبي سفيان إياه وكراهية المسلمين لذلك، بل وسخر بعض الشعراء من هذا النسب الجديد، ولذلك أراد زياد أن يذود عن نفسه وأبنائه بسلاح يخيف به المتعرضين له بالشكوك، ويشعرهم بعدم نقصه، بل بنقض الآخرين في هذه الناحية من الحياة، وأنّ هذا الكتاب فُقِد ولم يصلنا منه شيء(37).

2- دغفل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت60هـ/679م): وهو من مشاهير علماء الأنساب ، ويبدو أنّ العمر امتد به قبيل ظهور الإسلام، أدرك النبي ولم يسمع منه ، وبعد ذلك حتى أدرك الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (38).

ويروي ابن حبيب معلومة أنّ معاوية استعمل دغفلاً لابنه يزيد(39)، وقيل إنه سأله: بم نلت هذا يا دغفل؟ قال بقلب عقول ولسان سؤول، فقال: معاوية له: اذهب إلى يزيد فعلّمه النسب والنجوم(40).

ويروى أنّ كتاب دغفل النسابة التظافر والتناصر هو عبارة عن مجالس وأسمار تروى في بلاط الخليفة معاوية الذي كان محبًّا للمسامرة وأحاديث من مضى من الرجال والأحداث، ويظهر هذا الكتاب مدى عنايتهم بالسمر وأثر هذه المجالس في ترتيب العبارات وتحسينها(41).
*****************


الهوامش:


(1) جاسم محمد عيسى الجبوري، قبيلة كلب ودورها في التاريخ، رسالة ماجستير غير منشورة، ص11.

(2) د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، بيروت، 1390هـ/1970م، 1/466-467.

(3) العدوي، التاريخ الإسلامي، 40.

(4) ابن عبد البر، القصد والأمم في التعرف بأصول أنساب العرب والعجم، النجف، 1386هـ، 59.

(5) الجبوري، قبيلة كلب، 12.

(6) سورة البقرة، الآية 215. (7) سورة البقرة، 177.

(8) سورة ا لشعراء، الآية 214. (9) سورة الحجرات، الآية 13.

(10) ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، دار المعارف، مصر، 1977م، 1/2، 3.

(11) ابن حزم، المصدر نفسه، 1/2.

(12) أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، فتوح البلدان، 548-549.

(13) الجبوري، الجوار: دراسة في المفهوم والدلالة التاريخية في عصر الرسالة والراشدين، رسالة دكتوراه غير منشورة، 110.

(14) عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت، 1391هـ/1971م، 2/426.

(15) د. جواد علي، المفصّل، 4/313، انظر: السيد عبدالعزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية، جامعة الإسكندرية، القاهرة، 1967م، 411.

(16) ابن خلدون، المقدمة، 101.

(17) أبو عبدالله محمد بن عمران المرزباني، معجم الشعراء، تحقيق كرنكو، القاهرة، 1354هـ، 352.

(18) الجبوري، قبيلة كلب، 15.

(19) أحمد صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام، الموصل، 1401هـ/1981م، 129-130.

(20) الجبوري، قبيلة كلب، 15.

(21) حسين نصار، نشأة التدوين التاريخي عند العرب، مكتبة السعادة، مصر، 11.

(22) د. عبدالعزيز الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 19.

(23) د. نزار عبداللطيف الحديثي، القيمة التاريخية لكتب الأنساب، بحث منشور في ندوة كتب الأنساب، 85-86. (24) مصطفى شاكر، التاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م، 65، 66.

(25) المرجع نفسه، 66. (26) نفسه.

(27) أبوالفرج محمد بن أبي يعقوب بن النديم، الفهرست، طهران، 1971م، 49؛ انظر: مصطفى، التاريخ العربي، 98.

(28) البلاذري، فتوح البلدان، 548، 549؛ انظر: مصطفى، التاريخ العربي، 190.

(29) مصطفى شاكر، التاريخ العربي، 190.

(30) الحديثي، القيمة التاريخية لكتب الأنساب، 86.

(31) أبو سعيد عبدالكريم السمعاني، الأنساب، دار الجنان، بيروت، 91.

(32) الحديثي، القيمة التاريخية، 87. (33) الدوري، نشأة علم التاريخ، 39.

(34) ابن النديم، الفهرست، 102.

(35) الدوري، نشأة علم التاريخ، 40؛ مصطفى، التاريخ العربي، 173-174.

(36) ابن النديم، الفهرست، 89. (37) نصار، نشأة التدوين التاريخي، 12-13.

(38) مصطفى شاكر، التاريخ العربي، 136.

(39) أبوجعفر محمد بن حبيب البغدادي، المحّبر، تح. د. إيلزة ليختن سنبز، 478.

(40) مصطفى، التاريخ العربي، 136. (41) نصار، نشأة التدوين، 13.

(42) أبومحمود عبدالله بن مسلم بن قتيبة، كتاب المعارف، تح. د. ثروت عكاشة، القاهرة،181؛ أبوالحسن علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، طبعة محيي الدين عبدالحميد، القاهرة، 1958م، 2/85.

(43) المسعودي، مروج الذهب، 2/40. (44) ابن النديم، الفهرست، 89.

(45) د. جواد علي، المفصّل، 1/45.

(46) د. السيد عبدالعزيز سالم، التاريخ والمؤرخون العرب، جامعة الإسكندرية، القارهة، 1981م، 46.

(47) محمد بن منبع بن سعد، الطبقات الكبرى، مطبعة بريل، ليدن، 1255هـ، 5/216.

(48) حسين نصار، نشأة التدوين التاريخي، 14.

(49) ابن سعد، الطبقات، 5/216.

(50) مصطفى، التاريخ العربي، 136. (51) أحمد أمين، ضحى الإسلام، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1932م، 2/322؛ نصار، نشأة التدوين، 29-30؛ مصطفى، التاريخ العربي، 152.



(52) مصطفى، التاريخ العربي، 153.

(53) سالم، التاريخ والمؤرخون، 58.

(54) الأصفهاني، الأغاني، 19/69. (55) المصدر نفسه، 19/59.

(56) الذهبي، تراجم رجال روى عنهم محمد بن إسحاق، 68.

(57) أبو نعيم، الحلية، 3/360.

(58) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، المطبعة الحسينية، القاهرة، 2/428.

(59) نصار، نشأة التدوين، 47.

(60) الأصفهاني، الأغاني، 8/178. (61) الجبوري، قبيلة كلب، 17، 20.

(62) مصطفى، التاريخ العربي، 19؛ سالم، التاريخ والمؤرخون، 48. (63) مصطفى، التاريخ العربي، 190.

(64) شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر، تهذيب التهذيب، دائرة المعارف في الهند، 1326هـ، 9/180؛ مصطفى، التاريخ العربي، 190. (65) الطبري، تاريخ، 4/449.

(66) مصطفى، التاريخ العربي، 193-194؛ الدوير، بحث في نشأة علم التاريخ، 40.

(67) ابن قتيبة، كتاب المعارف، 181.

(68) سالم، دراسات في تاريخ العرب، 32؛ سالم، التاريخ والمؤرخون، 49.

(69) سالم، التاريخ والمؤرخون، 171.

(70) مصطفى، التاريخ العربي، 55.

(71) الحديثي، القيمة التاريخية لكتب الأنساب، 87.

(72) فرانز روزنثال، علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة د. صالح أحمد العلي، مكتبة المثنى، بغداد، 1963م، 382-385، 486، 545.

(73) الحديثي، القيمة التاريخية، 87. (74) المرجع نفسه، 87-88.

(75) شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي، الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، مطبعة العاني، بغداد، 1962م، 132.

********************

بقلم : دكتور : جاسم محمد عيسى الجبوري -

* معهد الفنون الجميلة للبنين، نينوى.

المصدر :

مجلة العرب

عدد عام 1425- عدد ذو القعدة وذو الحجة –


بواسطة : موقع حمد الجاسر –

http://www.sahab.ws/6785/news/7028.html
اقرأ المزيد